ألجمني الحدث..
فصمت عن الحديث..
وأوجعني الفقد..
فلزمت الصمت..
وخانتني الأفكار..
وهربت الكلمات وتمنّعت الحروف..
ولازم قلمي صمت الحزن والأسى رغم (وفرة الحبر)..
فقد كان النبأ صاعقاً..
والخبر أليماً..
والفاجعة كبيرة..
بلا مقدّمات تتهيأ بموجبها لسماع الخبر والاستعداد النفسي لاستقباله مطلقاً..
فقد حادثت الشهيد أبو عبيدة فضل الله إبراهيم قبل نحوٍ من ثلاث أسابيع عبر رسائل الواتس وهو في بورتسودان وكان كالعهد به مذ عرفته العام 2008م تجد عنده الإجابة الكافية الوافية والاستجابة السريعة الشافية..
لم يعيّن الشهيد في متحرك لكردفان أو دارفور ولم يغادر بورتسودان إلا (للقاء قدره) وفق مطلوبات العمل التي تأتيك في أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ فلا تملك غير الاستجابة (الفورية) ولو كنت تعلم أنها قد تقودك للقاء الموت وجهاً لوجه..
استشهد أبو عبيدة وقد جاء الخرطوم (المكلومة) ولما تتعافى في مهمة عادية ليكون في موقع سقوط إحدى مسيّرات المليشيا المتمردة ليلتحق بركب الشهداء الأبرار الأخيار..
قدمت الدمازين رئيساً لشعبة الاستخبارات فوجدت الشهيد أبوعبيدة بكلية القيادة والأركان لكن ما إن فرغ من الدورة إلا والتحق بالشعبة لأجد أمامي ضابطاً من نوع فريدٍ قلّ مثيله خُلقاً وأدباً وحياءً ونظيره احترافية عالية ومهنية كبيرة وموثوقية بلا حدود وإلمام بكل ما يلي عمل الاستخبارات في مسرح معقّد كالنيل الأزرق.. تتداخل فيه العسكرية والسياسة يموج بالأحداث والوجود القريب (الغريب) للحركة الشعبية وجيشها الشعبي كثير الخروقات هنا وهناك غير بعثة اليونميس وضغطها المتصل على القيادة وطلباتها (الملغومة) التي لا تنتهي.. يزيّنه عقلٌ راجح وفكرٌ ثاقب ورأي سديد وصلاحٌ ونقاء وطهرٌ وصفاء وزهدٌ وإباء وورعٌ وسخاء.. ثم علاقاتٍ اجتماعيةٍ ممتدة واسعة وحضور وقبول (حيث ذهب) وعلاقات متميزة مع المرؤوسين وحسن إدارة لهم.. غادرت الدمازين وكان التواصل بيننا مستمراً لم ينقطع حتى جاء تمرد عقار الأخير فتم إلحاقي على استخبارات الدمازين وقد كان أبوعبيدة حينها رئيساً للشعبة حيث أحسن إداراتها وإدارة ملفات الاستخبارات والتعاطي مع الأحداث وكنت مقيماً في ذات (المنزل المعروف) نتقاسم الزاد والشاي وقهوة الصباح.. غادرت بعد فترةٍ وجيزةٍ ذهبت إلى جنوب كردفان ومنها ليوغندا لأتفاجأ برسالة من الشهيد تفيد بأنه قد تم تعيينه ضابط ارتباط وفق مقررات المؤتمر الدولي حول إقليم البحيرات مقيماً بمدينة (قوما) بالكنغو ضمن مراقبين من منظمة البحيرات فهنأته على ذلك (وفرحت) أيما فرح.. لاحقاً تبادلنا كثير من المعلومات بحكم أن ملف البحيرات جزء من اهتماماتي ثم التقينا (كفاحاً) على شواطئ قوما في إحدى المؤتمرات فقدم لي معلوماتٍ غزيرةٍ وفيرةٍ كثيرة ومثيرة ولا غرو فهو ضابط استخبارات (شاطر) يعلم كيف ينتزع المعلومات ويكتب التقارير.. علمت لاحقاً بتعيينه ملحقاً عسكرياً بأديس أبابا وهو حقه ومستحقه فمثل هذه المحطات لابد لها من اختيار دقيق وفق معايير محددة توفرت فيه وزاد عليها كيل بعير.. ثم وضع بصمته المميزة التي تعقبه وتخلفه حيثما حل وذهب وكان متميزاً في الأداء الدبلوماسي العسكري الأمني رغم أنه ميدان جديد للعمل.. في زيارة وفد الاكاديمية لأثيوبيا وقد كنت ضمن طاقمها التقيته وقد استقبلنا بمطار أديس أبابا وأغدق علينا كثيراً من الود والترحاب والحفاوة والأنس وكان مرافقاً لنا في معظم الفعاليات التي نظمها الجانب الاثيوبي.. كنت قريباً جداً منه في مرض نسيبه المرحوم اللواء كمال السيد مصطفى رحمه الله رحمة واسعة والذي جاورته لفترة قصيرة بأركويت ثم وفاته ومراسم دفنه واستمعت (بحزن شديد) لقصة مرض موته المفاجئ تاركاً خلفه أرملة (هي شقيقته) وأيتاماً صغاراً.. لم يدر بخلدي ذاك اليوم وأن استمع له أنه سيكون الأقرب التحاقاً باللواء كمال تحمله مسيرات المليشيا الغادرة حيث مقام الشهادة والشهداء
اللهم إنّ فقدنا كبير..
ومصابنا عظيم..
والموت على كثرته لا يؤلف..
فاللهم ألزمنا وأسرته وأهل بيته وعموم الأهل بالقضارف صبراً جميلاً..
اللهم اجعل البركة في ذريته وأهل بيته وأخلفه فيهم خيراً يا أرحم الراحمين..
اللهم إنا نشهد بأن أبا عبيدة عاش بين الناس بأخلاقه وحلمه ووداعته وطيبته وكل من عرفه شاهدٌ على ذلك ولا نزكّيه عليك وأنت حسبه وحسيبه..
اللهم تقبل شهادتنا فيه وأجزه جنةً عرضها السموات والأرض يا أكرم الأكرمين..
اللهم ارفع درجته في عليين واحشره في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
اللهم أكتب بدمه الذكي فجر النصر القريب والفتح المبين لأهل السودان.. وخلاصهم من هذه الفئة الباغية الفاجرة..
ويا أبا عبيدة..
لقد تعجّلت الرحيل والبلاد تتعافى وتغتسل من دنسها ورجسها..
لقد كان موعدنا لقاءً (بمقرن النيلين) وقد تطهرت البلاد من أرجاس التمرد..
واغتسلت جنباتها طهوراً من نجس هؤلاء وبقايا جيفهم هنا وهناك..
وذهبت أوجاعها وآلامها..
وأبدلها الله بعد الضيق فرجاً..
وبعد العسر يسراً..
وبعد الصبر جبراً..
كان موعدنا أخي الحبيب أن نجتر ذكريات الحرب ومآسيها..
لتحكي وتحكي لا تقطع الحكايا سوى ضحكتك المميزة..
متنقلاً من موقف لآخر ومن حكاية إلى أخرى عبرةً واعتباراً ودروساً..
ولكن إن كتب لك أن ترد فستقول مقتبساً اعتذار بني إسرائيل لسيدنا موسى عليه السلام (ما أخلفت موعدك بملكي)..
لكنه القدر المقدرور..
والأجل المسطور..
والكتاب المؤجل يوم أن كتب الله الآجال أياماً وساعات ودقائق وثوانٍ..
فأجل الله إذا جاء لا يؤخر ..
يا أبا عبيدة..
لئن لم نلتق في ساحات النصر والعزة والتمكين..
فعسى أن نلتقيك عند الحوض..
وفي مقام الشهادة والحمد..
فعسى أن تذكرنا يومئذٍ.
فبعض ما نتعلّق به رقماً من (السبعين) ولو كان الأخير.
إن القلب محزون..
والدمع ثخين..
وإنا على فراقك يا أبا عبيدة لمحزونون..
ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله (إنا لله وإنا إليه راجعون).
العزاء موصول للأخوة بالدفعة 41 كلية حربية.
أخوك أسامة محمد أحمد عبد السلام – الدوحة 10 سبتمبر 2025م