Site icon اسفير نيوز

صلاح الدين مركز يكتب: ..كل الطرق تؤدي إلى الفاشر..  

 

 

 

تحرير بارا لم يكن مجرد خبر عابر في نشرات المساء، بل حدث مفصلي يعيد تشكيل المشهد الميداني في غرب السودان. هذه المدينة، الواقعة على عقدة طرقية في شمال كردفان، تحولت بعد استعادتها من قبل القوات المسلحة وحلفائها إلى بوابة استراتيجية نحو دارفور، ومقدمة لفتح الطريق إلى الفاشر.

 

الجيش هنا لم يكتفِ بعملية عسكرية ناجحة، بل قدّم درساً في كيفية الجمع بين التخطيط الميداني والرؤية السياسية.

 

فمن الناحية العسكرية، ركّزت القيادة على ضرب العمق اللوجستي للميليشيا، فاستعادة بارا تعني عملياً خنق خطوط الإمداد التي كانت تصل بين كردفان ودارفور، وتجريد الخصم من أهم أدواته: الوقود، الذخيرة، وحركة المقاتلين.

 

وبفقدان هذه الشرايين، باتت الميليشيا أشبه بجسد بلا دماء، تتقهقر بسرعة أمام كل هجوم منظم.

أما على الأرض، فقد ظهرت آثار هذا الضغط واضحة. انسحابات متلاحقة، مواقع تنهار دون مقاومة تذكر، وتشتت في صفوف عناصر الدعم السريع الذين فقدوا عدداً من قادتهم المحليين عبر التحيد عن طريق الطيران المسير والعمل الاستخباري.

غياب القيادة الميدانية الفاعلة جعل المليشيا في حالة ارتباك دائم، تتحرك بلا خطة واضحة، ما عجّل بانهيار مواقع استراتيجية واحدة تلو الأخرى.

 

لكن الاستراتيجية لم تتوقف عند حدود البندقية. سياسياً، عمل الجيش على كشف طبيعة الميليشيا أمام الرأي العام المحلي والإقليمي، مسلطاً الضوء على تورطها في انتهاكات إنسانية، وعلى صلاتها بتمويل وتسليح خارجيين.

 

هذا الجهد الإعلامي والدبلوماسي ساهم في تقليص شرعية الخصم، وزاد من عزلة قياداته في العواصم المحيطة. هنا يظهر التكامل: ضربة عسكرية في الميدان، يقابلها ضغط سياسي يضيّق الخناق من الخارج.

 

والأهم أن الجيش اختار استراتيجية تقوم على الحركة لا الجمود. لم يدخل في معارك استنزاف داخل المدن المكتظة بالمدنيين، بل فضّل استهداف العقد الطرقية ومراكز الإمداد، وهو ما قلل الخسائر في الأرواح وحافظ على زخم التقدم. بهذا المنهج، تحولت السيطرة على بارا من نصر محلي إلى نقطة انطلاق على طريق أكبر.

لكن، هل يعني ذلك أن الفاشر باتت على مرمى حجر؟ الحقيقة أن التحدي لا يزال ضخماً. الفاشر تعاني حصاراً قاسياً وظروفاً إنسانية مأساوية، وأي عملية عسكرية هناك يجب أن تُدار بحذر بالغ لتجنب كارثة أكبر. الانتصار الحقيقي لن يُقاس بعدد الكيلومترات المحررة، بل بقدرة الجيش على تحويل زخم المعركة إلى مكاسب إنسانية وسياسية: فتح ممرات آمنة، إعادة الخدمات، واستعادة ثقة الأهالي في الدولة.

 

إن كل الطرق اليوم قد تؤدي إلى الفاشر، لكن الوجهة النهائية يجب أن تكون أبعد من ذلك: استعادة سيادة الدولة على كامل ترابها، وترسيخ السلام والاستقرار. الجيش، بما أظهره من قدرة تنظيمية وعسكرية وسياسية، يملك أوراق القوة، والميليشيا في حالة انحدار واضح بعد أن فقدت قياداتها ومصادر دعمها. ويبقى الرهان الآن على أن تُستثمر هذه اللحظة لصناعة واقع جديد، حيث لا مكان لميليشيا خارج القانون، وحيث تعود الدولة حامية للحدود وراعية للمدنيين.

Exit mobile version