إبراهيم شقلاوي: الأمن المائي السوداني وحوض النيل
وجه الحقيقة |
حين استعرت عنوان هذا المقال من كتاب البروفيسور سيف الدين حمد عبد الله: “الأمن المائي السوداني وحوض النيل”، كان ذلك عن قناعة بأن العنوان لا يعبّر فقط عن مضمون الكتاب، بل يختزل أحد أخطر التحديات التي تواجه بلادنا اليوم. فهذا العمل، الذي أهدانيه المؤلف مشكورًا، صدر في توقيت حرج يمر فيه السودان بتحولات سياسية واقتصادية وأمنية معقدة، وسط إقليم تتصاعد فيه التوترات حول الموارد، وعلى رأسها المياه.
في هذا السياق، لم يعد الأمن المائي مجرد ملف فني أو تفاوضي، بل بات قضية وطنية سيادية ترتبط مباشرة بمفهوم استقرار الدولة، وبقدرتها على التخطيط لمستقبلها وحماية مصالحها.
عرفت البروفيسور سيف الدين حمد من خلال عملي معه عن قرب، وشهدت كيف يوازن بين دقة العلم وهدوء الحجة، وبين مسؤولية القرار وشجاعة الموقف. رجل خبر دهاليز هذا الملف وأوجاعه من قلب التفاوض، إذ شغل منصب وزير سابق ورئيس اللجنة الوطنية الفنية لحوض النيل، وقاد الوفد السوداني في مفاوضات حاسمة بلغت ذروتها بتوقيع إعلان المبادئ بين السودان ومصر وإثيوبيا في الخرطوم عام 2015، في واحدة من أكثر اللحظات توترًا وحساسية في علاقات دول الحوض.
في كتابه هذا، الذي يقع في 257 صفحة من القطع المتوسط، يقدم البروفيسور سيف الدين عرضًا شاملًا وتحليليًا دقيقًا لتاريخ وجغرافيا وتحديات الأمن المائي السوداني ضمن إطار حوض النيل. لا يفرض آراءً، بل يحاور القارئ من موقع العارف، ويعرض الخلفيات القانونية والهندسية والسياسية التي تحكم حصة السودان، وعلاقاته بدول المنبع والمصب، ومآلات التعاون أو غيابه في هذا الملف الحساس.
ويفرد المؤلف مساحة وافية للحديث عن المبادرات الإقليمية، وتطور الإطار القانوني والمؤسسي للتعاون – مثل اتفاقية الإطار التعاوني (CFA) – والاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف. ويُبرز كيف أن غياب التنسيق بين دول الحوض لا يزيد من احتمالات النزاع فحسب، بل يهدد فرص التنمية المستدامة، ويقوّض الاستقرار. ومن منظور علمي وعملي، يربط الكتاب بين المياه والنمو السكاني، وبين الموارد الطبيعية والتحولات الجيوسياسية، وبين المناخ والتنمية، ليضع الأمن المائي في مكانه الصحيح: كحجر أساس لأي مشروع وطني حقيقي.
ولا يغفل الكتاب أهمية بناء الثقة بين الدول، وإقامة شراكات استراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة، مؤكدًا أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه، لا سيما في ظل الشح المائي، والتقلبات المناخية، والضغوط التنموية المتصاعدة. فالتعاون، كما يوضح المؤلف، ليس ترفًا سياسيًا ولا خيارًا أخلاقيًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان الأمن المائي والغذائي والبيئي والمجتمعي لجميع دول الحوض.
وما يميز هذا الكتاب أنه يتناول قضية المياه ضمن بنية الدولة الشاملة، مؤكدًا أن أي خلل في إدارة هذا الملف سينعكس مباشرة على الأمن الوطني. ومن خلال ما ورد في الكتاب، يتضح أن السودان لا يملك حتى الآن سياسة مائية وطنية متكاملة، تربط بين الموارد والاحتياجات والمشروعات والقطاعات المختلفة. هذا الغياب يُضعف من قدرة الدولة على التفاوض من موقع قوة، ويجعل قراراتها عرضة للتأثر بالضغوط الخارجية.
انطلاقًا من قراءتي للكتاب ومعرفتي بالمشهد المائي في السودان، أجد نفسي مضطرًا لتجديد الدعوة إلى إنشاء مركز سيادي للموارد المائية، يعمل كهيئة استراتيجية عليا تُعنى برسم السياسات المائية، وتحديد الأولويات الوطنية، وتوجيه استثمارات الدولة، وتوحيد الموقف الفني والسياسي. ورغم أن هذا المقترح لا يرد في الكتاب نصًا، إلا أنه، برأيي، استحقاق منطقي لما ورد فيه، وإجراء حتمي لمواجهة التحديات القائمة.
يُبرز الكتاب أن المياه لم تعد مسألة تنموية فحسب، بل تحوّلت إلى ملف يُدار بمنطق الأمن القومي. فغياب القرار المائي يعني فقدان القرار التنموي والسياسي. وينبّه المؤلف إلى أن ضعف التنسيق بين دول الحوض يهدد الأمن الإقليمي بأكمله، ويفتح الباب أمام النزاعات والتدخلات الخارجية، بينما يشكّل التعاون وتكامل الأدوار السبيل الأمثل لضمان الاستخدام العادل والمستدام للموارد.
ويلمح الكاتب، وإن بشكل غير مباشر، إلى غياب وزارة الري والموارد المائية عن واجهة الفعل المؤسسي بعد اندلاع الحرب، وابتعادها عن المبادرة في قضايا إعادة الإعمار وتقييم الأضرار، مما فاقم من هشاشة الوضع. كما تشير المعطيات إلى أن الخلافات الداخلية ساهمت في إبعاد الكفاءات الفنية، وتقليص دور الوزارة في لحظة وطنية كانت تقتضي الحضور الكامل في هذا الملف الحيوي.
إن استمرار إدارة ملف المياه بمنطق التجزئة، أو الاستجابة للضغوط الآنية، أو الإقصاء السياسي، لا يمكن أن يقود إلى أمن مائي مستدام. نحتاج إلى مشروع مائي وطني، متسلح بالعلم والخبرة والقيادة المهنية الواعية لطبيعة المرحلة، وتعقيداتها، ومستقبل الصراعات المحتملة.
بحسب #وجه_الحقيقة، فإن كتاب البروفيسور سيف الدين حمد عبد الله ليس مجرد دراسة فنية، بل دعوة جريئة لإعادة كتابة تاريخ العلاقات المائية في حوض النيل، واستنهاض مسؤولية الدولة والمجتمع على السواء. إنه نداء لخبراء السودان في مجال المياه لتوثيق تجاربهم، وبناء ذاكرة وطنية تستند إلى الحقائق لا إلى المواقف السياسية.
ومن هذا المنطلق، أدعو الحكومة السودانية، استنادًا إلى هذه الرؤية، إلى وضع ملف المياه في قلب أولوياتها، كمرتكز أساسي للأمن القومي. فالدولة التي لا تملك قرارها المائي، لا تملك مستقبلها. ولا أمن سياسي بلا أمن مائي، ولا استقرار بلا رؤية استراتيجية تقودها الدولة بعقل التخطيط، لا بهواجس اللحظة.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 24 يوليو 2025م
Shglawi55@gmail.com