خطاب البرهان: يمكن لمؤسسة الجيش
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
أثار خطاب رئيس مجلس السيادة السوداني، القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، تفاعلاً واسعًا على مستوي الاعلام المحلي والاقليمي بجانب مواقع التواصل الاجتماعي، حيث جاء الخطاب بالأمس خلال مشاركته في مؤتمر دعم مبادرات ومشروعات التعليم الإلكتروني والبنية التقنية في إقليم دارفور. الخطاب لم يقتصر على إبراز اهتمام الدولة، على أعلى مستوياتها، بقضايا دارفور ووضعها ضمن الأولويات الوطنية، بل حمل أيضًا رسائل سياسية حاسمة وُجّهت للداخل والخارج.
جاءت بعض هذه الرسائل في سياق الرد على تصريحات القيادي خالد عمر يوسف، التي أطلقها عبر قناة الجزيرة، مدعيًا وجود تواصل مستمر بين قيادات” صمود” وكلٍّ من البرهان وقائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي”. في محاولة لإحداث شرخ في الجبهة الداخلية معتمدا علي دعوة اطلقها البرهان من قبل اشترط التخلي عن دعم المليشيا للراغبين للدخول في اي عملية سياسية وهو ما لن تستطيع “صمود” القيام به لأسباب كثيرة قد نشرحها في مقال لاحق لكن المهم الان نحاول تفكيك الابعاد السياسية والامنية للخطاب الذي وجد اهتمام كبير في الساحة السياسية.
رغم تصدّر قضايا التعليم الإلكتروني في إقليم دارفور سياق الخطاب ، جاءت الإشارات إلى دعم التعليم باعتباره حقًا إنسانيًا أساسيًا ومسؤولية على الدولة كرسالة رمزية لتحصين المجتمع من تداعيات الحرب بحسب ” اخبار السودان “. وأبرز البرهان دور المؤسسات المحلية مثل وزارتي التعليم العالي والاتصالات إلى جانب المنظمات الدولية مثل “اليونيسف” في تعزيز التعليم الإلكتروني، مع تسليطه الضوء على تأثير الحرب، التي حرمت أكثر من عشرة ملايين طفل من التعليم، كأداة لإدانة مليشيا الدعم السريع ووصمها بالإرهاب.
تضمن الخطاب استحضارًا لتاريخ السودان كدولة ساهمت في استقلال إفريقيا، مقابل انتقاد لبعض الدول الإفريقية التي وصفها البرهان بأنها تتآمر حاليًا على السودان.
هذا التباين في الخطاب يعكس شعورًا مزدوجًا بين الفخر بالتراث الوطني والغضب من التدخلات الخارجية التي تسعى، وفق تعبيره، إلى فرض حلول سياسية أو شخصيات غير مقبولة شعبيًا، في إشارة مباشرة لعبد الله حمدوك الذي ذكره بالاسم بان هناك قوي تحاول فرضه علي السودانيين ضمن المعادلة السياسية. موكدا ان ذلك مرفوض وبذلك قفل الباب تماما امام هذه المحاولات.
كذلك وجّه البرهان رسائل حاسمة للمجتمع الدولي، لا سيما الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، مشددًا على رفض السودان لأي وصاية خارجية. واعتبر أن المراهنات على شخصيات سياسية مرفوضة شعبيًا، مثل قيادات قوى الحرية والتغيير، هي تضييع للوقت ومحاولة لفرض حلول “غير وطنية”. كما أشار إلى محاولات تشكيل حكومة موازية من الخارج باعتبارها خطوة مرفوضة ومدانة شعبيًا.
تجلي الامن القومي في حديث البرهان حيث احتلت مسألة الجيش مكانة مركزية في خطابه مؤكداً على ضرورة بناء جيش قومي مهني واحد يحمل عقيدة وطنية خالصة بعيدًا عن التحزب والسياسة. وردًا على المزاعم التي تشير إلى تسيس الجيش وارتباطه بالإسلاميين، أوضح البرهان أن العقيدة الوطنية لا تقبل أي تأثيرات أيديولوجية، مشددًا على استمرارية الحرب حتي أنها التمرد.
بالإشارة إلى حديثه عن الدول الصديقة والدور الدولي، يبدو البرهان مهتمًا بإبراز تضامن القوى الإقليمية مع السودان حيث أشار الي الدول التي تقدمت بمشروع قرار في القمة الافريقية الاخيرة بإدانة مليشيا الدعم السريع ، كذلك مستشهدًا بمواقف دول امتنعت عن المشاركة في مؤتمر أديس أبابا، الذي اعتبره محاولة لتبييض صورة “العدوان على السودان”. كما توجّه برسائل مباشرة إلى الفاعلين الدوليين، محذرًا من مغبة دعم أطراف داخلية لا تحظى بقبول شعبي.
تضمّن الخطاب تأكيدًا على استمرار العمليات العسكرية ضد مليشيا الدعم السريع حتى “تطهير البلاد”. هذا الموقف يعكس رؤية البرهان للصراع باعتباره ليس فقط معركة عسكرية، بل معركة للحفاظ على سيادة السودان وهويته الوطنية. وتأكيده أن الحلول السياسية يجب أن تنبع من الداخل وليس عبر ضغوط خارجية يعزز مبدأ السيادة الوطنية كمحدد أساسي للمرحلة المقبلة.
يمكن قراءة خطاب البرهان في بورتسودان كإعلان واضح للمبادئ التي تريد القيادة العسكرية فرضها في المرحلة الراهنة، حيث يبرز الخطاب رغبة الجيش في الظهور كحامٍ وحيد للسيادة الوطنية ووحدة السودان في ظل الأزمات المتفاقمة. من خلال التركيز على بناء جيش قومي ومهني، يبعث البرهان برسالة مزدوجة؛ الأولى داخلية تهدف إلى طمأنة الشعب السوداني بأن المؤسسة العسكرية ملتزمة بالدفاع عن مصالحه بعيدًا عن التحزب، والثانية خارجية ترفض أي تدخل دولي قد يفرض حلولًا على السودان أو يهدد استقلال قراره الوطني.
لكن كيف يمكن فهم هذا الخطاب في ضوء الدعوات الأخيرة من قبل ناشطين وسياسيين بتمديد فترة حكم الجيش لخمس سنوات انتقالية؟
بلا شك، يعكس هذا المطلب شعورًا عامًا في بعض الأوساط بأن الأولويات الحالية للسودان لا تتعلق بتغيير الحكم بقدر ما ترتبط باستعادة الأمن والسلام وإعادة بناء النسيج الاجتماعي. إذ تبدو الدعوات إلى تمديد الحكم العسكري مبنية على قناعة بأن ” الاحزاب” في الوقت الراهن غير مهيأة لإدارة البلاد، خاصة مع تعقيد المشهد السياسي وضعف القوى المدنية في إيجاد رؤية جامعة .
من هذا المنطلق، يمكن فهم خطاب البرهان كإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية تقدم نفسها باعتبارها الضامن الوحيد لتحقيق الأمن والسلام بالتركيز على دحر المليشيات المتمردة لضمان استقرار الأوضاع الأمنية. بجانب إعادة بناء الدولة من خلال طرح رؤية لإعادة بناء جيش قومي ومهني كخطوة أولى نحو استعادة مؤسسات الدولة. كذلك المصالحات الاجتماعية ورتق النسيج الاجتماعي هذا الأهداف بمكن للجيش القيام بها بوصفه المؤسسة القومية المتماسكة في الوقت الراهن والتي تملك روية يثق فيها اهل السودان قاطبة.
هذا وبحسب مائراه من وجه الحقيقة، مثل خطاب البرهان انعكاسًا للرؤية التي تقدمها المؤسسة العسكرية لحاضر السودان ومستقبله. من خلال وجاهة الحجج المتعلقة باستعادة الأمن وبناء الدولة، إلا أن هذا الطرح يظل بحاجة إلى أن يدعم بصورة تمكن الجيش من الاستمرار في حكم البلاد وتقفل الباب امام المزايدة السياسية بدعوي الشرعية او الابتزاز الاقليمي والدولي.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 18 فبراير 2025 م Shglawi55@gmail.com