إبراهيم شقلاوي: الخرطوم التعافي بإزالة السكن العشوائي
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
ظلّت معضلة السكن العشوائي في ولاية الخرطوم واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وتشابكًا، لم يكن مشهد السكن العشوائي في ولاية الخرطوم مجرد مظهر عمراني هامشي، بل كان على الدوام انعكاسًا لأزمة بنيوية كبيرة تهدد الأمن الاجتماعي وتعرقل الاستقرار السياسي . فمنذ سنوات ظلّ الرأي العام والخبراء يحذّرون من أن هذه العشوائيات، التي تحيط بالعاصمة كالسوار حول المعصم، والتي تُنتج عنها واقعًا هشًا وفر بيئة خصبة للجريمة والتفكك ، وأسس لمهددات أمنية تجاوزت البعد العمراني إلى عمق الدولة نفسها .
وقد جاءت حرب السودان في 15 أبريل 2023، لتكشف عن الوجه الأكثر خطورة لهذه المناطق ، حينما وجدت مليشيا الدعم السريع وداعموها المحليون والإقليميون ضالتهم في تجنيد عناصر من سكان تلك العشوائيات من وقت مبكر، مستغلة هشاشتهم الاقتصادية والاجتماعية، فصاروا وقودًا لإطالة أمد الصراع وممارسة النهب وانتهاك الحرمات، ما عمّق من معاناة المواطنين وحسرتهم وعرقل مساعي استعادة الأمن والسلام .
في هذا السياق جاء إعلان الأمين العام لحكومة ولاية الخرطوم الهادي عبد السيد أول أمس بشأن شروع جهاز حماية الأراضي في إزالة العشوائيات بمنطقة العزبة بمحلية بحري، كخطوة استراتيجية وجدت ارتياحا واسعا وسط المواطنين، إذ تجاوزت البعد التخطيطي والإداري إلى كونها رسالة سياسية واضحة مفادها أن الخرطوم قد بدأت مرحلة التعافي وإعادة البناء وفق قواعد جديدة وأسس راسخة .
فالمضي قدمًا في معالجة جذور السكن العشوائي يُعد، في جوهره عملية استباقية لتحصين المجتمع ضد الانفلات الأمني، وضمان إعادة إنتاج فضاء حضري متماسك ومتناسق، يخضع لمنطق القانون والتعايش السلمي لا منطق الفوضى والجريمة .
إن إعادة تنظيم هذه المناطق لا يمكن قراءتها بمعزل عن المفهوم الأوسع للأمن الاجتماعي، الذي يتأسس على قدرة الدولة على صيانة سلامة مواطنيها من الأخطار الداخلية والخارجية على السواء.
فالعشوائيات، وفق تقديرات الخبراء، أشبه بـ”قنابل موقوتة” تهدد النسيج الاجتماعي من الداخل، وتفتح الباب أمام كل أشكال الجريمة والتطرف، وهو ما يتطلب ليس فقط أدوات إزالة فورية، بل سياسات مصاحبة تتكامل فيها الأبعاد القانونية والتنموية والاجتماعية، حتى لا تنشأ فجوة جديدة. أو مهددات أخرى للسلم الأهلي والمجتمعي.
في المحصلة لا يمكن لمجتمع أن ينعم بالاستقرار والتطور ما لم تكن هناك بيئة آمنة تحفّز أفراده على العمل والإنتاج والابتكار، وهذا ما تعيه حكومة الخرطوم حاليًا، وهي تضع يدها على أحد أهم مفاتيح الاستقرار: إعادة تخطيط الخدمات، وتحويل مناطق الفوضى إلى نواة لمجتمع آمن ومنتج ومتماسك ويواكب طموحات الدولة في مرحلة ما بعد الحرب.
هناك تجارب إقليمية أثبتت أن مثل هذه الخطوات ليست خيارًا بل ضرورة، كما حدث في مصر حين أُزيلت بؤر العشوائيات الكبرى بالقاهرة وأُعيد توطين السكان في مشروعات حضرية منظمة، مما أسهم في تحجيم الجريمة وتحقيق الاستقرار . كذلك في المغرب، جاء برنامج “مدن بدون صفيح” ليعالج العشوائيات كأحد أبرز تحديات الأمن والتنمية.
أما على الصعيد الدولي، فقد ظلت تقارير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) تؤكد أن غياب التخطيط الحضري السليم في العشوائيات يؤدي إلى ترسيخ الفقر وخلق بيئات خصبة للجريمة والتطرف، وهو ما أشار إليه تقرير “The Challenge of Slums” بوضوح، حيث وصف هذه المناطق بأنها قنابل موقوتة داخل المدن (UN-Habitat, 2003). كذلك جاء في تقرير “World Cities Report 2022” أن إعادة تنظيم العشوائيات ضرورة لضمان الأمن الاجتماعي وتحقيق التنمية المستدامة.
في السياق السوداني، لا تنفصل خطوة إزالة العشوائيات عن هذه الرؤية، إذ تمثل بداية لتعافٍ ضروري يعيد ضبط هيكل العاصمة ويغلق الثغرات التي ظلت تُستغل لتقويض استقرار المجتمع، وهو ما يتسق مع المعايير الدولية لتأمين المدن وحماية الأمن الاجتماعي.
إن خطوة حكومة ولاية الخرطوم لإزالة العشوائيات ليست مجرد إصلاح حضري، بل إعلان عن مرحلة جديدة من استعادة الدولة لعافيتها. فهي تعني إزالة الفوضى، ليس فقط من معمار المدينة، بل من منظومة الأمن الاجتماعي والانتماء الوطني.
فالمدن التي تُبنى على أساس من النظام والقانون تخلق مواطنًا يشعر بالأمان، ويندمج ضمن مشروع الدولة الوطني . والتجربة السودانية بعد كل ما عانته من الحرب ، تثبت أن لا نهضة حقيقية إلا بمدن مخططة ومجتمعات مستقرة، تديرها حكومة قادرة لا تسمح بالفراغات التي تؤدي إلى الفوضى .
لذلك وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن إعادة الإعمار تبدأ بتأمين العاصمة القومية بكافة مدنها ومناطقها من أي وجود محتمل للسكن العشوائي حيث اثبتت الحرب ان العشوائيات كانت احد العوامل التي استغلت لتأجيج النزاع مما يجعل معالجتها ضرورة ملحة لاستقرار ولاية الخرطوم.
دمتم بخير وعافية.
الاثنين 17 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com