لقد أنجزت المدرعات ما وعدت. كأنّما سارت الحرب على أمانيها و توقعاتها ؛ أن تفني جنود المليشيا على أسوراها في بداية الحرب ثم تخرج و تطاردهم في شوارع الخرطوم و الحرب على نهاياتها.
تحمّل سلاح المدرعات عبئاً رهيباً حتى ظننا أنه قد يُؤثِر السلامة فلا يغادر حدود جدرانه مهما حصل . لقد صارت المدرعات أسطورة من أساطير التشكيلات القتالية و نيشان يود كل جندي أن يضعه على كتفه و يقول : لقد كنت يوماً محارباً في المدرعات. لقد جذبت آلاف الشباب المتطلعين الى شرف القتال من داخلها ، و المستشرفين بتمثل سيرة قادتها الذين كانوا أول من تحدى سلطان آل دقلو عرّفوهم قدرهم.
ما زالت كلمات بكراوي و روح الشهيد مامون كغمامتيْن تظلان سماء المدرعات و توحيان إلى شبابها بمعاني الجهاد و العزيمة و الإخلاص . ما زال جنرالها العجوز الماكر نصر الدين الذي هلك على يديه و بسبب ألاعيبه و خططه أكبر عدد من جنود المليشيا الذين قُتلوا في مكان واحد .لقد كسر ظهر المليشيا و أنهى أحلام الآلاف من جنودها غير بعيدٍ من حجرته و مصلاه. لقد ظنوا أنهم يحاصرونه و هو يقتلهم ، فأظهر لهم ملامح الضعف بينما استبطن علامات الإفتراس. أغراءهم بقرب سقوطها حتى تكاسلت أقدامهم عن الرحيل عنها ، و سفك دماءهم حتى أروى منهم الأرض و صبغ الحواري و الأحياء باللون الأحمر.
لقد صلّى من أجله الطير و رُزقت بفعل صنيعه الكلاب و الفئران.
لقد صمد نصر الدين و عاش لوعدٍ قطعه و قسمٍ أقسمه بهزيمة دقلو و هو ممسك بكوب الشاي على يده. إذ ما زال الجنرال ممسكاً بالكوب الذي تحدى به دقلو في أول لقاء عاصف بينهما يوم أن توعده فقال: “تسحب عرباتك من بوابتي قبل أخت كباية الشاي دي من يدي”.
في المدرعات يُلهم الشباب الشجاعة كما يُلهمون النَفَس.
يسمعون حكاوي جنود اللواء أيوب الذين جاءوا معه من سنجة و عبروا شوارع الخرطوم يوم أن كان “شق الديار إنتحار” . لقد جاء أيوب مستقبلاً النار مستدبراً الخضرة و الأمان يحمل المدد للمدرعات رغماً عن آلة الجنجويد الحربية . لقد رحل أيوب ؛ لكن ما زال الرجال هنا يحمدون له صنيعه ذلك و يتسآءلون : ما الذي كان ليحدث لو لم يرسله الله مع رفاقه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق من الناس ؟
في المدرعات يشاهد الشباب خطوات العميد النعمان و هو يبحث في البيوت و الأزقة بحثاً عن الجنجويد فيتقدم الصفوف و لا يأتي صوته آمراً من خلفها. هناك يبدو أمامهم منزل الشاب خطاب الذي كان يدافع عنه و عن بيوت جيرانه. لقد أحرج خطاب جيلاً كاملاً من الرجال الأكبر سناً و بفضله علمنا أن “مواليد الألفينات” هم في الحقيقة مقاتلون أشداء و ليسوا مراهقين لا خيار عندهم إلا التزاحم على السفارات و المطارات و مواطن النزوح الآمن. لقد أحيا خطاب جيلا من الخطابين ممن سميناهم نحن غفلةً بطلّاب الشهادة. لقد أدركنا متأخرين أن كثيراً منهم قد سألوا نوعاً مختلفاً من الشهادات. لقد كنا نظن أننا شباب البلد لكن خطاب ألمح الينا بأننا في الحقيقة كهوله و شيوخه .
في المدرعات أدار اللواء العبقري نصر الدين جنةً على الأرض. أدار معسكراً من الأحرار بينما كنا نحن في المنافي محاصرين. لقد كانوا سعداء بينما كان الغمّ يفتك بنا خشية سقوط المدرعات في كل لحظة. لقد اختلطت سيرة حياة الرجل الشخصية مع قصة الحرب منذ أن كانت ناراً تومض تحت الرماد ، و عندما يكتب التاريخ قصة الحرب فإنه سيقص علينا فصولاً من حياته : عقل نصر الدين و شجاعته و وعيده لدقلو الذي تسبب بإقالته ، ثم عودته الظافرة و جهاده البارع. من الصعب أن نخبر متى تتوقف قصة الحرب و متى تبدأ حياته الشخصية.
اليوم ينطلق شباب المدرعات يطاردون العدو عندما تأخر عليهم و أصبح يتجنب أرضاً قد خطوها بأقدامهم. مهما اجتهد المخلصون في بحري و أمدرمان و مهما ساعدوا و أعانوا ؛ فتحرير الخرطوم هو الشرف و التاج ، و هو الذي تصنعه المدرعات الآن . فاليوم قد اكتمل تحرير الخرطوم إلا موضع لبنة : و من الواضح أنه سيضع شباب المدرعات تلكم اللبنة.
تم بحمد الله