إبراهيم شقلاوي: ولا الدنيا بما فيها تساوي ملتقى النيلين يا سمراء

0

وجه الحقيقة |

لم تكن خرطوم اللاءات الثلاثة يومًا مجرد نقطة على خارطة الجغرافيا، بل كانت وما زالت نُقطة التقاء الروح بالزمان والمكان والإرادة . هي ليست فقط ملتقى نهرين أو جمال دفاق، بل ملتقى ذاكرة تُنسج من الماء والتراب، من الحنين والصبر، من المروءة والمكرمات. الخرطوم لمن يعرفها، لا تُرسم بالحبر على الورق، بل تُرسم في قلوب العابرين، وتُخطُّ على جدران الروح أجمل اللوحات .

ليس غريبًا إذًا أن يُنشد سيد خليفة للخرطوم برائعة الشاعر المسرحي صلاح عبد الصبور ، مفاخِرًا بأن لا السامبا ولا الرمبا ولا رقصات الدنيا حين الفرح بأسرها تضاهي وقوفك على ضفاف مقرن النيلين، حيث الأبيض والأزرق يتعانقان كأنهما قلبان لا يعرفان الفُرقة. هناك على تلك الضفة، لا يعود الإنسان مجرد عابرٍ في التاريخ، بل يصبح شاهد عصر على الفكرة والإرادة على تدفق الماء الذي لا يعرف سوى الوفاء ، فكيف لا يحنُّ السودانيون إليها، وقد أعياهم النزوح، وأثقل كاهلهم الغياب؟

هناك حيث يقف الأزرق الدفاق محتضنًا الأبيض الهادئ، تُقدّم لنا الطبيعة درسًا وجوديًا بليغًا، أن التلاقي هو الحياة ، وأن الاختلاف لا ينقص من جمال المعنى أو جلالها، بل يضاعف تأثيرها وعظمتها، الأزرق لا يذوب في الأبيض، ولا الأبيض ينكر زرقة الآخر، لكنهما حين يلتقيان يصبحان شيئًا أعظم من مجموعهما ” نهر النيل ” كذلك السودان.

لعل مأساة الحرب التي نعيشها لم تكن فقط في خراب العمران، بل في محاولتها محو هذا المعنى من الوجدان: أن الخرطوم كانت، وستظل ملتقى للناس قبل أن تكون ملتقى للنيلين. وأنه كما لم ينفصل الأزرق عن الأبيض، لا يجب أن ينفصل السوداني عن السودان، مهما تعمقت الحرب أو طال النزاع، فقد عرف شباب السودان المخلصين المحبين لهذا البلد كيف يدعمون خيارات شعبهم في السيادة الوطنية ويشدون عضد جيشهم الذي يتكئ على خبرة مائة عام من البطولات المحلية والاقليمية والدولية منذ ما قبل دولة كوش 732 قبل الميلاد ثم بعد أن تكون بشكله الحديث قبل العام 1955 حيث عرف آنذاك بأسم قوة دفاع السودان.

رغم ذلك شهدنا جحود و تأمر وخيانة بعض أبناء الوطن طمعا في المال والنفوذ، الذين طعنوا الخرطوم في خاصرتها، فانفرط عقد أهلها بين المنافي والملاجئ والخذلان. تفرقت الخطى، وعز التلاقي، لكن الصورة الراسخة لم تتبدد، ضحكات الأحياء القديمة، أصوات الآذان المتداخل مع وقع الأقدام التي تملأ الطرقات، رائحة القهوة المتسللة مع أولى خيوط الفجر وشاي اللبن عند المغيب، وحديث العابرين عن الثقافة والسياسة والفن وكرة القدم عن كل شيء إلا الحرب والدمار.

اليوم في زمن النزوح القاسي، والسفر الذي طال، يعود صدى تلك الأغنية “ياسمرا” ليذكرنا بأن الخرطوم ليست مجرد مكان، بل هي رمز لوطن يجب أن يتعلم كيف يتجاوز انقساماته. يجب أن نستخدم هذا الحنين كدافع للعمل السياسي المنتج، لتحقيق توافق وطني شامل، وبناء دولة ذات سيادة يحكمها مشروع وطني جامع، تحترم القانون و حقوق الإنسان وتضمن مشاركة جميع الشعب السوداني.” دون إقصاء.

اليوم نكتشف أن العودة للخرطوم ليست عودة لمكان، بل عودة لأنفسنا للقيم التي عرفنا بها بين الشعوب. الخرطوم ليست جسرًا فقط بين ضفّتين، بل بين ذاكرة وجسد. وكل طريق نحوها، مهما كان وعِرًا، هو طريق إلى الحياة. اليوم وبعد أن اوشكنا علي نهاية الحرب و عودة الاستقرار، تتراءى الخرطوم في مخيلة أهلها مثل وعدٍ مؤجل، كعيدٍ ينتظرونه بفارغ الأشواق. ولعل ما يحتاجه السودان اليوم، بعد كل هذا التيه و الابتلاء ، هو أن تُفتح الطرقات نحو العاصمة بأسرع ما يكون، لعودة الجميع إلى الديار التي يملأ فراغها عشق أهلها للقيم والدين وبركة الدعاء.

إن عودة الوزارات إلى الخرطوم التي نترقبها خلال الفترة القادمة إنها عودة الدولة، و عودة الحياة ، تلك ليست مجرد خطوة إدارية بل هي خطوة وجودية، بمثابة إعلان أن الدولة قائمة رغم التحديات، وأن الذين تناثروا على خرائط الغياب، ما زالوا يحملون في قلوبهم صورة العاصمة كما عهدوها أمنا وسلام وتواصل بين الجيران.

لذلك تظل المدن، مثل الأحلام لا تموت إلا إذا نسيناها. والأوطان لا تندثر إلا إذا طُفئت جذوتها في القلوب. واليوم لا تزال تلك الأغنية تتردد في كل قلب سوداني، كجرس يوقظ ما هو أعمق من الذاكرة “ولا الدنيا بما فيها تساوي ملتقى النيلين يا سمراء …” ذلك فقط هو #وجه_الحقيقة.. كما يقال الخرطوم كالنهر، تعرف كيف تحتمل الجفاف لتفيض من جديد.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 23 مارس 2025 م Shglawi55@gmail.com

اترك رد