Site icon اسفير نيوز

إبراهيم شقلاوي: أمريكا وكتابها القديم !

وجه الحقيقة |

 

تبدو السياسة الأمريكية تجاه السودان وكأنها لا تزال أسيرة “كتاب قديم”، لا تخرج منه إلا لتعود إليه من جديد كلما تعثرت رهاناتها على تحولات الداخل السوداني. فمنذ سقوط نظام البشير في 2019، انخرطت واشنطن في خط إعادة تشكيل المشهد السياسي السوداني ضمن ما عُرف بـ”الرباعية الدولية”، مستخدمة أدوات ناعمة كان أبرزها دعم تفويض البعثة الأممية بقيادة فولكر بيرتس، مرورًا بـ”دستور المحامين” المستورد الذي جرت محاولات لفرضه محليًا، وانتهاءً بالاتفاق الإطاري الذي وُلد ميتًا بعد اصطدامه بالواقع السوداني الذي لا يقبل الوصاية الدولية.

 

 

 

 

 

 

 

عقب فشل كل هذه المحاولات، انتقلت الإدارة الأمريكية إلى أدوات أكثر خشونة، كان أبرزها الدعم الخفي لمحاولات الدعم السريع للانقلاب على السلطة الانتقالية في 15 أبريل 2023. ومع انكشاف أبعاد هذا المشروع، واندلاع حرب طاحنة لم تأتِ بما كانت ترجوه، عادت الإدارة الأمريكية مجددًا إلى “الكتاب القديم”: سلاح العقوبات.

 

 

 

 

 

 

 

تأتي العقوبات الأخيرة بزعم استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وهو اتهام تزامن بشكل لافت مع التقدم الميداني للجيش في مواجهة مليشيا الدعم السريع، ما يعكس توقيتًا سياسيًا محسوبًا أكثر من كونه إجراءً حقوقيًا أو إنسانيًا. وقد أعلنت الخارجية الأمريكية أنها ستفرض قيودًا على الصادرات وخطوط الائتمان الحكومية للسودان، تدخل حيز التنفيذ في يونيو 2025، وهي عقوبات من الواضح أنها تستهدف إعادة ترتيب أوراق الضغط على الخرطوم بعد فشل خيار المليشيا.

 

 

 

 

 

 

 

القراءة الاستراتيجية لهذا السلوك الأمريكي تكشف محاولة جديدة لتركيع السودان وإجباره على العودة إلى طاولة التفاوض بشروط الوصاية الدولية. فواشنطن تعلم أن انتصار الجيش السوداني على مليشيا الدعم السريع سيُفضي إلى واقع سياسي جديد يُضعف من نفوذها في البلاد، ويفتح الباب أمام خيارات تحالفية أخرى قد لا تكون في مصلحة مشروع الهيمنة الغربي على المنطقة، وإن كانت القيادة السودانية لا تريد أن تمضي في هذا الاتجاه طمعًا في تفاهمات محتملة.

 

 

 

 

 

 

 

ولا يُخفى أن الدعم الأمريكي غير المباشر لمليشيا الدعم السريع جاء في سياق تماهٍ مع الأجندة الإماراتية، التي ترى في قوات حميدتي أداة لتحقيق مصالحها الإقليمية في القرن الإفريقي، بحسب الحكومة السودانية. ولو قُدّر لتلك القوات أن تنتصر، لما احتاجت واشنطن إلى إصدار عقوبات؛ فالإمارات تُعد من الحلفاء الذين يسيرون وفق بوصلة السياسة الأمريكية دون كثير اعتراض. (أخبار السودان)

 

 

 

 

 

 

 

العقوبات الأمريكية على السودان ليست وليدة اليوم، بل هي سلاح قديم يعود إلى عام 1993 حين أُدرج السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب. ومنذ ذلك الحين، تتابعت القرارات التنفيذية والتشريعية التي حاصرت الاقتصاد السوداني، ومنعت تدفق التكنولوجيا والاستثمار والتنمية، مما دفع السودان للتوجه شرقًا نحو الصين ودول آسيا، وهو ما تجلّى في شراكة نفطية ناجحة مع بكين.

 

 

 

 

 

 

 

غير أن هذه العقوبات لم تنجح في تحقيق أهدافها السياسية، بل كرّست عزلة اقتصادية أنهكت المواطن السوداني أكثر مما أضعفت النظام السياسي. وواقع الأمر أن واشنطن لم تملك طوال العقود الماضية رؤية واضحة تجاه السودان، بل ظلت تدير ملفه بمنطق العقاب والوصاية، مستندة إلى شعارات “السلام وحقوق الإنسان”، بينما تتحرك على الأرض وفق أجندات النفوذ والسيطرة.

 

 

 

 

 

 

 

رغم المواقف المتشددة، لا يزال بالإمكان إعادة توجيه العلاقات السودانية الأمريكية نحو مسار التفاهم المشترك، لكن ذلك يتطلب أولًا اعتراف واشنطن بإرادة الشعب السوداني، ووقف الاعتماد على وسطاء فقدوا مصداقيتهم داخل السودان. وقد سبق أن طُرحنا مبادرة للحوار المباشر بين الرئيس البرهان والرئيس الأمريكي دون وسطاء، لبحث مصالح الطرفين على الطاولة بوضوح. فالسودان ليس عدوًا لأمريكا ، بل يمكن أن يكون شريكًا استراتيجيًا في استقرار المنطقة إذا احترمت واشنطن سيادته الوطنية.

 

 

 

 

 

في ظل تصاعد الضغوط الأمريكية وفرض عقوبات على السودان استنادًا إلى مزاعم غير مثبتة، تتزايد الدعوات لتغيير الاتجاه نحو شركاء يحترمون السيادة الوطنية مثل الصين وروسيا. وتأتي زيارة الرئيس عبد الفتاح البرهان إلى روسيا بدعوة من الرئيس بوتين للمشاركة في القمة الروسية العربية كخطوة استراتيجية قد تمهّد لاتفاقات حاسمة، أبرزها اتفاق القاعدة الروسية في البحر الأحمر.

 

 

 

 

 

 

 

الحكومة السودانية، على لسان وزير الإعلام خالد الإعيسر، رفضت بشدة اتهامات واشنطن باستخدام أسلحة كيميائية، ووصفتها بأنها “ابتزاز سياسي وتزييف للحقائق”، مؤكدة أن الشعب السوداني لن يخضع لتكرار سيناريوهات التدخل الماضية. كما أكد الجيش السوداني ” أن اتهامه باستخدام أسلحة كيميائية مبررات فطيرة ومضللة، وأنه يخوض حرباً بأساليب نظيفة ولا يستخدم أي أسلحة محرمة مطلقًا” . وفي المقابل، نبهت السيناتور سارة جاكوبس إلى تواطؤ الإدارة الأمريكية مع الإمارات، الداعم الرئيسي للميليشيات، مؤكدة أن ما يحدث هو تضليل للرأي العام، وليس سياسة خارجية أخلاقية. (Reuters, 15 May 2025)

 

من هنا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن التحول نحو شركاء غير غربيين أصبح ضرورة استراتيجية يفرضها الميدان وغياب الثقة في الوعود الغربية. فالشعب السوداني الذي اختار الوقوف مع جيشه ومؤسساته الوطنية لا يبحث عن عدو، وإنما عن شريك يحترم قراره الوطني ويعامله بندية. فـالسيادة لا تُوهب، بل تُنتزع. ومن أراد علاقة حقيقية مع السودان فعليه أن يبدأ بالاحترام، لا بالإملاء.

 

دمتم بخير وعافية.

 

السبت 24 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version