إبراهيم شقلاوي: سد النهضة: إعلان الاكتمال ومأزق الغياب السوداني
وجه الحقيقة |
في تحول لافت يحمل أبعادًا سياسية واستراتيجية، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الأسبوع الماضي رسميًا اكتمال بناء سد النهضة، متعهدًا بافتتاحه في سبتمبر المقبل. هذا الإعلان الذي جاء محمّلًا برسائل متعددة، لم يكن مفاجئًا من حيث التوقيت، لكنه كشف مجددًا عن غياب رؤية سودانية متكاملة للتعامل مع هذا الحدث الجيوسياسي المفصلي في منطقة حوض النيل.
في كلمته أمام البرلمان الإثيوبي، حرص أحمد على تقديم السد بوصفه “نعمة للسودان ومصر ” (رويترز، يوليو 2025)، مؤكدًا أنه مشروع الطاقة والتنمية الذي أصبح واقعًا لن ينتقص من مياه النيل، بل سيعود بالنفع على دول المصب. غير أن هذه اللغة التصالحية لم تُخفِ حقيقة أن إثيوبيا تمضي في سياسة فرض الأمر الواقع، عبر قرارات أحادية تعبّر عن توجه واضح لبسط السيطرة على المنبع، دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم ينظم عمليتي الملء والتشغيل، وهو ما تُجمع عليه كل من السودان ومصر كشرط أساسي لحماية مصالحهما المائية.
سد النهضة، الذي تجاوزت نسبة إنجازه 98.9% وفقًا لما أعلنه مدير المشروع، تُقدّمه إثيوبيا كرمز للسيادة الوطنية والوحدة الشعبية، بعد أن تم تشييده – حسب زعمها – دون أي قروض خارجية. يُعد هذا التأكيد بمثابة رد على الانتقادات الأمريكية الأخيرة، لاسيما التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي ترامب، والتي وصف فيها تمويل السد من قبل إدارات أمريكية سابقة بأنه “غباء استراتيجي” ساهم في تهديد الأمن المائي لمصر “الجزيرة يوليو 2025” .
وراء هذا الخطاب الاحتفائي، تتزايد المخاوف من أن إثيوبيا تستغل انشغال السودان بأوضاعه الأمنية، وانشغال مصر كذلك، لتكريس نهج أحادي يقوّض مبادئ التعاون التي نُص عليها في إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في الخرطوم عام 2015، والذي كان يُنظر إليه حينها كمحاولة لوضع مسار تفاوضي دائم يراعي المصالح المتبادلة ويجنب المنطقة احتمالات الصراع حول المياه .
وبحسب مصادر مطلعة، كشفت صور الأقمار الصناعية عن تحضيرات إثيوبية لفتح البوابات الغربية للسد، في حين لم تُعلن الحكومة السودانية عن أي خطة للتحوط أو الاستعداد، وسط فراغ سياسي ومؤسسي غير مبرر.
وتزداد خطورة الوضع مع اقتراب سد النهضة من الوصول إلى سعته التخزينية النهائية البالغة 74 مليار متر مكعب، ما قد يشكل ضغطًا هائلًا على جسم السد والتربة المحيطة به، مما ينذر بإمكانية حدوث تغيرات جيولوجية غير محسوبة، وهو أمر يثير القلق في ظل ضعف إدارة الموارد المائية في السودان.
وقد انتشرت في الأسابيع الماضية تحذيرات من احتمال حدوث انهيار في السد، مصحوبة بأخبار وفيديوهات مشكوك في صحتها. ويتراوح التعامل معها بين من يستند إلى شائعات ونبوءات، ومن يحلل بمنطق علمي حذر، وهو ما يعكس الفراغ المعرفي والمؤسسي في الدولة السودانية، وغياب مراكز دراسات مستقلة ومتخصصة تقدم سيناريوهات واقعية.
تشير الدراسات الفنية السودانية – رغم محدوديتها – إلى أن الفجوة بين الطاقة الاستيعابية لتصريف المياه في سد النهضة (31 ألف م³/ث) مقارنة بسد الروصيرص (23 ألف م³/ث) تُعد خطرة من الناحية الهندسية، خاصة في حال حدوث تصريف مفاجئ وغير منسّق. ما يجعل من إنشاء مفايض طوارئ، وتوسيع سهل البطانة للزراعة، ضرورة استراتيجية ملحة.
وفي الوقت الذي تستعد فيه إثيوبيا للاحتفال بإنجازها التاريخي، يقف السودان بلا خطة واضحة، ولا مؤسسة مركزية لإدارة ملف المياه. ويُنظر إلى قرار دمج وزارتي الري والزراعة في حكومة الأمل كخطوة ارتجالية تعكس غياب الوعي الرسمي بحساسية هذا الملف، وتثير المخاوف من ضعف الحوكمة في قطاع يمثل شريان الحياة في بلد يعاني من النزاع المسلح، والتغيرات المناخية المتسارعة.
ويُعد غياب وزارة مستقلة للموارد المائية والسدود – تتمتع بصلاحيات سيادية – ثغرة تهدد الأمن القومي. فالزراعة، وإن كانت المستفيد الأكبر من المياه، لا ينبغي أن تكون الجهة المنظمة لها، لما في ذلك من تعارض وإخلال بمبدأ الحياد المؤسسي، كما أظهرت التجارب السابقة.
وقد أعاد الاجتماع المشترك لوزيري الخارجية والمياه في السودان ومصر ، الذي عُقد مؤخرًا بالقاهرة، التأكيد على وحدة المصير المائي بين البلدين، وعلى ضرورة الالتزام باتفاقيات قانونية ملزمة في مواجهة السياسات الأحادية الإثيوبية. ودعا الجانبان إلى تحويل التنسيق السياسي إلى تحالف قانوني وفني، لمواجهة آثار سد النهضة وتعزيز التعاون في مجالات الزراعة والطاقة والمياه.
من هنا، أصبح من الضروري إنشاء مركز وطني سيادي معني بالموارد المائية، يتولى إعداد قاعدة بيانات دقيقة، وإجراء الدراسات والخطط الفنية، وقيادة الموقف التفاوضية في المحافل الدولية. يتعين أن يكون هذا المركز مركز ثقل معرفي واستراتيجي، يقود عملية التخطيط الآني و المستقبلي، والطاري ويعيد بناء القدرات الفنية والهندسية للدولة السودانية التي تتجاذبها الأطماع الإقليمية والدولية.
وفي ضوء ما تقدم، ومن منطلق #وجه_الحقيقة، فإن سد النهضة لم يعد مشروعًا إثيوبيًا ، بل تحوّل إلى معادلة إقليمية تفرض على السودان إعادة تعريف علاقته بالمياه، بوصفها قضية سيادة وأمن قومي. وإذا استمر غياب الرؤية المركزية، والاكتفاء بردود الأفعال، فإن السودان قد يجد نفسه في مواجهة أخطر أزمة مائية في تاريخه الحديث.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 14 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com