إبراهيم شقلاوي: الحقائب الغائبة.. والدولة المؤجلة!
وجه الحقيقة |
تبرز حكومة الدكتور كامل إدريس كظاهرة سياسية فريدة، سواء من حيث تركيبة الفريق الوزاري أو من حيث نهج التشكيل، الذي اتسم بتجزئة غير مألوفة. فعلى مدار أسابيع، أعلن رئيس الوزراء عن تشكيل الحكومة على دفعات متدرجة، ضمّت حتى الآن خمسة عشر وزيراً، فيما لا تزال سبع وزارات أساسية شاغرة، بعضها يمثل أعمدة الهيكل التنفيذي للدولة. ورغم تقديم هذا النهج باعتباره حرصًا على حسن الاختيار، فإن التأخير في استكمال الوزارة يعكس حالة من التردد، وربما غياب الرؤية السياسية.
اللافت أن ثلاثة من أهم الوزارات المحورية لا تزال شاغرة: الخارجية، مجلس الوزراء، والطاقة. وهي وزارات تُحدّد اتجاه الدولة سياسيًا، وإداريًا، واقتصاديًا. وزارة الخارجية تمثل واجهة السودان دوليًا، ويُعد مجلس الوزراء مركز التنسيق الحكومي وضابط إيقاع الجهاز التنفيذي، بينما تُعد الطاقة عصب الاقتصاد، خاصة في ظل أزمات الوقود والكهرباء.
هذا البطء في التشكيل ينعكس أيضًا على طبيعة العلاقة بين رئيس الوزراء ومحيطه السياسي؛ إذ إن عددًا كبيرًا من الوزراء الذين تم تعيينهم لم يأتوا من دائرة قرار رئيس الوزراء بشكل مباشر، بل من ترشيحات الحركات المسلحة أو عبر تفاهمات مع القوى النظامية.
هذا يطرح تساؤلات حول حدود سلطة رئيس الوزراء ، ومدى استقلالية قراراته في ظل التوازنات القائمة. بل إن بعض التعيينات عكست خيارات محسومة مسبقًا، لم يكن لرئيس الوزراء فيها سوى مباركة الأمر الواقع.
في المقابل، اختار إدريس أن يحيط نفسه بوجوه مهنية في الغالب، تميل إلى الطابع الأكاديمي، دون أن تضم شخصيات سياسية ذات رصيد تاريخي. هذه السمة قد تمنح حكومته طابعًا هادئًا، وربما قبولًا أوليًا من مواطنين يتطلعون لحكومة كفاءات، لكنها في الوقت ذاته تُضعف مناعة الحكومة في مواجهة الضغوط السياسية، وتحد من قدرتها على المبادرة وصناعة القرار في واقع بالغ التعقيد .
من أبرز التحديات البنيوية التي تواجه حكومة إدريس ضعف التمثيل النسائي؛ إذ لم تُعيَّن سوى امرأة واحدة حتى الآن، رغم نص الوثيقة الدستورية على ضرورة وجود اربع وزيرات على الأقل. ولا يقتصر هذا على مخالفة قانونية، بل يعكس خللًا في مبدأ الإنصاف السياسي، خاصة أن النساء شغلن في السابق مناصب وزارية حساسة بكفاءة واقتدار.
ويُعقّد المشهد أن بعض الحركات المسلحة المشاركة في التشكيل، رغم تعرضها لانتقادات واسعة، أظهرت مرونة نسبية في تغيير بعض وجوهها الوزارية، ودفع شخصيات جديدة إلى الساحة. ومع ذلك، لا تزال هذه التغييرات تجري في إطار نخبوي، لم تُتح فيه المشاركة الشعبية الفعلية، ولم تُطرح على الرأي العام برامج واضحة، مما يُضعف من مصداقيتها، مهما حسنت النوايا أو تمّ حسن الاختيار.
وفي البعد الإقليمي والدولي، يلفت النظر أن حكومة إدريس حتى الآن تخلو من وزراء ذوي طابع صدامي، باستثناء وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر، المعروف بصراحته وجرأته في التعبير عن صوت الشارع أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
هذا التوجه يثير تساؤلات مهمة: هل تعكس هذه التركيبة الهادئة تفاهمات ضمنية مع القوى الإقليمية والدولية؟ وهل يُراد من هذه الحكومة أن تمضي بهدوء نحو مرحلة انتقالية يُدار فيها الملف السياسي بحذر لتجنّب التصعيد؟
الشكوك تزداد مع تسريبات حول احتمال تولي رئيس الوزراء حقيبة الخارجية بنفسه، وهو أمر قوبل برفض واسع من مراقبين سياسيين. إذ يرون في ذلك خطوة تُضعف الحكومة، خصوصًا أن إدارة السياسة الخارجية في الظروف الراهنة تتطلب تفرغًا كاملاً.
فضلًا عن أن هذا التوجه قد يُفسر على أنه تقليص للبروتوكول السياسي لرئيس الوزراء، في وقت يسعى فيه السودان لاستعادة مكانته كدولة فاعلة، لا كدولة تابعة أو خاضعة لإملاءات خارجية.
يُلاحظ أيضًا أنه لم يُصدر حتى الآن هيكل تنظيمي يوضح المهام والصلاحيات لكل وزارة، وفقًا للرؤية الجديدة التي أعلنها رئيس الوزراء والتي تم على أساسها تعيين الوزراء. وكان من المفترض أن يصدر هذا الهيكل بالتزامن مع التشكيل لضمان وضوح الصلاحيات وتكامل الأدوار.
وفي مقارنة تاريخية، تُستدعى تجربة حكومة الدكتور الجزولي دفع الله عام 1985، التي نجحت في تشكيل حكومة كفاءات خلال أسابيع قليلة رغم صعوبة المرحلة. قد جمعت حينها بين المهنية والاستقلالية دون الوقوع في فخ المحاصصة أو التأخير. أما حكومة إدريس، وعلى الرغم من تشابه الظروف السياسية، فلا تزال عاجزة عن إظهار الحسم ذاته، مما يثير تساؤلات بشأن جاهزية القيادة المدنية الحالية لتجاوز تحديات الانتقال.
ويبقى أن يُقال – بحسب #وجه_الحقيقة – إن هذه الحكومة، رغم تعثرها، تمثل فرصة نادرة لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتأسيس جهاز تنفيذي منسجم بعد سنوات من الصراعات السياسية والصفرية. لكن تحقيق ذلك مرهون بالإسراع في استكمال الحقائب الوزارية، وضمان تمثيل عادل للنساء والشباب، وتبنّي رؤية سياسية منفتحة تُخرج الحكومة من الطابع الإداري إلى الفاعلية الحقيقية في المشهد الوطني. فالسودان اليوم لا يملك ترف الانتظار، وهو عالق بين الحقائب الغائبة والدولة المؤجلة.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 17 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com