Site icon اسفير نيوز

صلاح الدين مركز يكتب ..الجيش السوداني بين الحملات الإعلامية ومخططات التفكيك

 

 

 

أصبح الخطاب الإعلامي الموجَّه ضد الجيش السوداني في الآونة الأخيرة ظاهرة لافتة تستحق التوقف والتأمل. فكلما ازدادت البلاد قربًا من لحظة الحسم، تتكاثف الأصوات التي تسعى لتجريد المؤسسة العسكرية من مشروعيتها القومية، وتصويرها كفصيلٍ مسلحٍ من بين فصائل أخرى، لا كرمزٍ وطني يجمع السودانيين جميعًا تحت راية واحدة.

 

آخر تلك الخطابات كان ما أدلى به الوليد مادبو في مقابلة على قناة الجزيرة، حين وصف الجيش السوداني بالمليشيا ووضعه في كفة واحدة مع مليشيا الدعم السريع. لم يكن وقع التصريح مفاجئًا بقدر ما كان صادمًا، لأنه تجاوز حدود الرأي إلى نزع الشرعية عن مؤسسة الدولة الوحيدة التي ما زالت رغم كل الجراح تحافظ على التماسك والانضباط.

 

تناقض صارخ وتاريخ لا يُمحى

 

الجيش الذي وصفه مادبو بالمليشيا، هو ذاته الجيش الذي خدم فيه والده، اللواء آدم مادبو، وزير الدفاع في العام 1966م، وهو أحد أبناء هذا الوطن الذين شاركوا في ترسيخ تقاليد المؤسسة العسكرية السودانية في مراحلها المبكرة.

هذا التناقض بين الماضي والحاضر يطرح سؤالًا مشروعًا: هل تغيّر الجيش فعلاً حتى يُنزع عنه وصف القومية والمهنية، أم أن الخطاب السياسي هو الذي تغيّر وأصبح يرى في الجيش خصمًا لا ركيزة وطنية؟

 

إن من يعرف تاريخ الجيش السوداني يدرك أنه كان دائمًا مرآةً للتنوع الوطني، ومدرسةً للمواطنة والانضباط، ومؤسسةً خرجت من رحم الشعب نفسه. فرتبُه القيادية لم تكن يومًا حكرًا على جهةٍ أو قبيلةٍ أو إقليمٍ، بل جاءت من كل بقاع السودان. ولهذا، فإن محاولة حصر الجيش في خانة جهوية أو سياسية، تُعد انتقاصًا من ذاكرة وطنية راسخة قبل أن تكون إساءةً لمؤسسة عسكرية.

 

الإعلام بين المهنية والتوظيف السياسي

 

الإعلام في فترات الأزمات الوطنية يلعب دورًا مزدوجًا: يمكن أن يكون جسرًا للوحدة أو أداةً للانقسام. والمهنية الحقيقية تقتضي التوازن، وتعدد وجهات النظر، وتجنّب الخطاب التحريضي الذي يزيد النار اشتعالًا.

لكن ما رأيناه من قناة الجزيرة في هذه الواقعة، لا يمكن فصله عن خطٍّ تحريري متكرر يستهدف الجيش السوداني عبر برامج وتصريحات ضيوف مختارين بعناية. إذ يتم تقديم المؤسسة العسكرية دائمًا في موقع الاتهام، بينما تُغفل خلفيات الحرب وتعقيداتها ومسبباتها العميقة.

 

ليس المطلوب من الإعلام أن يصفّق للجيش أو لأي مؤسسة، بل أن يكون منصفًا، يقدم الوقائع بعدل، ولا يُسهم في تشويه صورة مؤسسة قومية في وقتٍ تحاول فيه البلاد استعادة عافيتها. فالإعلام الذي ينزع عن جيش بلده شرعيته، يساهم من حيث لا يدري أو يدري في فتح الطريق أمام تفكك الدولة نفسها.

 

التدخلات الخارجية واتساع رقعة السلاح

 

لا يمكن فصل الحملات الإعلامية عن واقع الميدان. فكلما ازدادت التدخلات الخارجية في الصراع السوداني، اتسع نطاق السلاح وتعددت الولاءات العسكرية. ومع الوقت، تحوّلت بعض الجماعات المحلية إلى قوى مسلحة تفرض وجودها في مناطقها، في مشهدٍ يهدد جوهر الدولة المركزية.

حين يصبح لكل قبيلة جيشها، ولكل حزب كتيبته، يفقد السودان مقومات البقاء كدولة موحدة. هذه هي النتيجة الحتمية حين يُضعف الجيش القومي، وتُستبدل هياكل الدولة بأذرع مسلحة متعددة الولاء.

 

إصلاح لا هدم

 

نعم، لا أحد ينكر أن الجيش السوداني، كغيره من المؤسسات، يحتاج إلى إصلاح وتحديث وهيكلة تتناسب مع التحولات الراهنة. لكن الإصلاح لا يكون عبر حملات التشكيك والتجريح، بل عبر رؤية وطنية شاملة تُبنى على الاعتراف بدوره وتضحياته، لا بنزع شرعيته.

الجيش السوداني اليوم ليس مجرد مؤسسة، بل هو الضمانة الأخيرة لوحدة السودان واستمراره. تفكيكه أو شيطنته يعني تفكيك الوطن نفسه.

 

خلاصة الكلم

 

السودان اليوم أمام مفترق طرق حاسم

إما دولة بجيش قومي واحد، يعلو فوق الانتماءات الضيقة، أو فسيفساء من الجيوش الصغيرة التي لا يجمعها سوى الجغرافيا.

ورغم كل العواصف التي هزّت أركانه، ظل الجيش السوداني رمزًا للمهنية والانضباط والهوية الوطنية الجامعة.

من يهاجم هذه المؤسسة في لحظات الخطر لا يخدم حرية الكلمة، بل يخدم مشروع التفكيك ذاته.

 

ومن يراهن على سقوط الجيش، إنما يراهن من دون أن يدري على سقوط السودان نفسه.

Exit mobile version