Site icon اسفير نيوز

إبراهيم شقلاوي: مشروع الجزيرة الجديد.. فرصة لهندسة التنمية

وجه الحقيقة |

 

 

يعتبر قرار رئيس الوزراء د. كامل إدريس بإعادة تبعية إدارة الري إلى مشروع الجزيرة خطوة سياسية وتنموية بالغة الأهمية، تحمل مؤشرات لتحوّل قد يعيد ترتيب بيت الزراعة السوداني . فالقرار يعبّر عن إدارة جديدة للتنمية وإعادة بناء مؤسسات الدولة بعد سنوات الحرب.

تأسس مشروع الجزيرة في العام 1925 عقب اكتمال خزان سنار والبنية التحتية لري الأراضي. يمتد المشروع على مساحة تُقدَّر بنحو 2.2 مليون فدان، وكان أحد أعمدة الاقتصاد القومي وأدوات الأمن الغذائي، قبل أن يتراجع في العقود الأخيرة نتيجة ضعف الإدارة وتدهور البنية التحتية، خصوصًا في منظومة الري التي تُعد العمود الفقري للإنتاج.

بموجب القرار رقم (173)، شُكّلت لجنة للتسليم والتسلّم بين وزارة الري وإدارة مشروع الجزيرة تمهيدًا لإنشاء وحدة مستقلة لإدارة الري.

هذا النموذج ربما يستلهم تجربة “وحدة تنفيذ سد مروي” التي تحوّلت لاحقًا إلى “وحدة تنفيذ السدود”، وأثبتت أن الإرادة السياسية المقرونة بالكفاءة الفنية قادرة على إحداث طفرة تنموية حقيقية، من خلال انجازها لمشروعات قومية كبرى شملت سد مروي، أعالي عطبرة، تعلية الروصيرص، وعددًا من الطرق والجسور والمطارات ومشروعات حصاد المياه في الريف السوداني فيما عرف بالتنمية المصاحبة.

يبدو أن الحكومة الحالية تسعى لتكرار هذا النموذج الناجح في قطاع الزراعة، استجابةً لحاجة البلاد العاجلة لتأمين الغذاء وإنعاش الاقتصاد المتأثر بالحرب. لكن من المهم أن ينفذ بكل تفاصيله وتفويضه وسياساته التي تتجاوز الاجراءات البيروقراطية وتعزز الكفاءة الوظيفية.

إن إعادة تبعية الري إلى المشروع تمثل نقلًا لسلطة القرار من المركز إلى الميدان، في انسجام مع فلسفة اللامركزية التي ظل يتحدث عنها إدريس والتي تهدف إلى تمكين المزارعين والمؤسسات الإنتاجية من إدارة شؤونهم الفنية والمالية بقدر أكبر من الاستقلالية والمسؤولية.

كما يفتح القرار الباب أمام استثمار الفرص المائية الجديدة التي يوفرها سد النهضة الإثيوبي بفضل استقرار مناسيب المياه التي تمكن من تعدد دورات الإنتاج الزراعي على مدار العام، ما يعزز القدرة على التخطيط الزراعي المنتظم. وبهذا يصبح مشروع الجزيرة نموذجًا قابلًا للتعميم على المشروعات الزراعية الكبرى، لتشكيل رؤية مؤسسية وطنية حديثة.

البعد السياسي وراء القرار تُظهر أن مشروع الجزيرة لم يعد مجرد مشروع زراعي، بل مختبر لهندسة التنمية ورؤية جديدة لإدارة الموارد الوطنية. غير أن نجاح التجربة مرهون بقدرة الإدارة الحالية أو الجديدة على الجمع بين التجديد الإداري في كافة المستويات مع الاستفادة من الخبرات القديمة، لإطلاق طفرة إنتاجية حقيقية قادرة على تغيير موازين الاقتصاد الزراعي.

ورغم ترحيب المزارعين، أثار القرار جدلاً واسعًا في الأوساط الزراعية والهندسية ، فبينما اعتبره المزارعون انتصارًا لإرادتهم بعد سنوات من التعقيد البيروقراطي، رأى بعض خبراء الري أنه قرار متسرّع قد يضع المشروع أمام تحديات فنية وإدارية تفوق قدراته الحالية.

فالتاريخ يعيد نفسه؛ إذ سبق نقل إدارة الري إلى المشروع عام 2010، ثم أُعيدت لاحقًا إلى وزارة الري بعد بروز مشكلات هيكلية أثرت على الأداء.

اليوم، يتكرر المشهد ذاته ولكن في ظرف أكثر هشاشة على مستوى الدولة والقطاعات الإنتاجية . فوزارة الري التي تم دمجها في وزارة الزراعة ظلت تعاني من فراغ إداري واضح نتاج الاجراءات الخاطئة التي تمت خلال فترة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، ما أفقدها تماسكها الهيكلي والمهني.

وفي المقابل، يواجه مشروع الجزيرة نفسه تحديات تمويلية وإدارية كبيرة تجعل نجاح التجربة مرهوناً بقدرة القيادة الحالية على وجود خطة اصلاحية حقيقية، بالإضافة إلى خلق شراكات فاعلة مع المؤسسات الداعمة والمانحين هذا بجانب أهمية إدخال التقانات الحديثة ورفع كفاءة المزارعين ،والزامهم بالسياسات الانتاجية حسب المواسم الزراعية .

لكن نجاح القرار لن يكون مضمونًا إلا إذا تم تجديد الكادر البشري بنسبة لا تقل عن 60% لتكون الطاقة الجديدة قادرة على الابتكار، مع الاحتفاظ بنسبة 40% من الخبرات السابقة لضمان الانتقال السلس للمعرفة التقنية والتاريخية، وهو ما يمثل عنصر الحسم في ولادة مشروع جزيرة جديد.

سياسيًا، يُقرأ القرار ضمن توجه الحكومة لتفعيل مفهوم “الإصلاح التنموي” القائم على تفكيك المركزية، وإعادة توزيع السلطات التنفيذية على مستوى الأقاليم والمشروعات الكبرى. غير أن هذا التوجه يواجه تحديات لا بد من حلها، تتعلق بضعف التنسيق وتداخل الصلاحيات وغياب الرؤية الفنية الموحدة لإدارة الموارد المائية.

فبينما يراهن رئيس الوزراء على الكفاءة المحلية داخل المشروع، يرى آخرون أن غياب التمويل أو ضعف القدرات الفنية قد يعيد الفشل السابق بصيغة جديدة، خاصة أن إدارة المشروع لا تملك بعدُ السيطرة الكاملة على خزان سنار أو القنوات الرئيسة التي ما تزال تحت إشراف الري الاتحادية.

لا يمكن فصل القرار عن السياق السياسي الأوسع الذي تعمل فيه الحكومة الساعية إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن بعد سنوات الحرب. فمشروع الجزيرة ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل رمز للاستقرار والإنتاج الوطني، وأي خطوة لإحيائه تمثل رسالة سياسية واقتصادية بامتياز تعكس جدية الدولة في إنعاش الاقتصاد عبر بوابة الزراعة.

وبحسب #وجه_الحقيقة، فإن مشروع الجزيرة ، يعد الآن فرصة تاريخية لإعادة هندسة التنمية في السودان، وتحويل مشروع قومي تقليدي إلى نموذج حديث في الإدارة الزراعية والعمليات الإنتاجية، مع توفير فرص عمل واعدة للشباب، كذلك يعزز مساهمة الزراعة في الناتج المحلي، ويعيد الثقة في قدرة الدولة على إدارة مواردها بكفاءة.

ومع ذلك يبقى السؤال الأهم : هل يشكّل نقل إدارة الري إلى مشروع الجزيرة خطوة إصلاحية نحو نهضة إنتاجية حقيقية، أم أنه إعادة تدوير لفشلٍ سابق بوجهٍ جديد؟ دعونا ننتظر.

دمتم بخير وعافية.

السبت 8 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version