هشام الشواني.. يكتب.. تهافت خطابات التقسيم والانفصال

0

                    

نرى اليوم تصاعدًا في بعض خطابات الانفصال والتقسيم، شمالا وشرقا وغربا وجنوبا. وهذه ظاهرة مفهومة في تاريخ السودان وفي الدول المُحيطة المُشابهة لنا في بعض الجوانب، السودان بعد الاستقلال عام 1955 عرف خطاب الفدرالية (الحكم اللامركزي)، الذي طالبت به وقتها النخب الجنوبية، كحل للتفاوت التنموي بين الشمال والجنوب. ذلك التفاوت الذي تسببت فيه عن قصد سياسات المُستعمر، مُضافا لذلك فرض المُستعمر ايضا حجابا ثقافيا على الجنوب ليمنعه من التواصل مع الشمال، بغرض تنصيره ونشر اللغة الانجليزية فيه، ونشر التعليم الكنسي، ومنع تفاعل وتأثير الثقافة المنتشرة في شمال ووسطه على الجنوبيين.

 

ثم تطور الأمر من خطاب الحكم الفدرالي اللامركزي, لخطاب الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي، وذلك ما جاء في اتفاقية أديس ابابا عام 1972. في ذلك العهد اعترف النُميري بمظالم واقعة على الجنوب, سببها المستعمر، وحلها في سياسات مادية تنموية. حينئذ لم تكن القيادة الجنوبية واقعة تماما تحت سيطرة القوى الغربية، فالدعم الإسرائيلي لجوزيف لاقو وحركة الأنانيا لم يُنتج هيمنة كاملةعلى قرارهم السياسي، وهذا ما ظهر في معارضة جوزف لاقو لرغبة الإسرائيليين وقتها وقبوله بالتوقيع على اتفاقية السلام وإن كان ذلك على مضض!

 

تطور الأمر مع تقدم العهد بحكم النميري، فنشأت الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 1938، لتمثل بداية فصل جديد من فصول ابتزاز الدولة السودانية،فكانت غاية الحركة ماهو أبعد من تقرير الحكم الذاتي لللإقليم الجنوبي. حيث رفعت شعار تحرير السودان، بإعادة صياغته من صياغة كاملة من جديد. فيتم النظر لكل التاريخ السودان باعتباره تاريخ ظلم وتهميش طال مجموعات محددة دون الآخرين. ويتم تحميل الدولة والشماليين هكذا على العموم كامل مسؤولية هذا الظلم. جاءت الحركة وعبر تفسيرها الخاطئ للواقع، وتعمدها تجاهل الدور الاستعماري للقوى الغربية والصهيونية في السودان لتصبح المرجعية الرئيسية لكل خطابات الانفصال والتقسيم السودانية بعد ذلك التاريخ.

 

عبر هذا السرد البسيط نكتشف تحولين مهمين في التطور التاريخي لخطابات التهميش، حيث نرى تحول الخطاب من خطاب سياسي حول التنمية والتمثيل لخطاب عرقي آيدلوجي Ethnic Ideology، قائم على تفسير التهميش تفسير ثقافي عرقي، بحيث يظهر أن المتسببين في الظلم هم أهل الشمال، بثافتهم الإسلامية العربية، والمظلومون هم أهل الغرب والجنوب من ذوي الثقافة غير العربية وهذه آيدلوجيا تعبئة عرقية لا تصمد أمام النقد التاريخي والمفهومي. التحول الثاني يظهر في طرح حل (غير مادي). حل لا يتعلق بسياسات موضوعية تنتهجها الدولة، بل نرى طرح حل فضفاض, شاعري،خطابي، ليبرالي الجوهر، يقوم على مفاهيم التنوع الثقافي بين مجموعات متضادة، ويقوم على مقدمات تبني السودان الجديد على كراهية العرب والثقافة الإسلامية والتودد للثقافة الغربية. سودان جديد يُطبع مع المُستعمر القديم ومع المركز الغربي للاستعمار الجديد. هنا يبرز خيار الانفصال كشرط وورقة إبتزاز، تُقدمها هذه النخب التي تقود خطاب الحركة الشعبية وبقية حركات السودان الجديد ضد الدولة السودانية. بحيث تكون المُعادلة كالتالي : بناء سودان جديد وهدم التاريخ السوداني كله؛ أو الانفصال عن هذه الدولة.

 

هذا الخطاب مُختل بالطبع، مُتهافت فكريا وتاريخيا لكنه فعال سياسيا. ففي طبيعة الاجتماع السياسي البشري، قد يتم بناء خطابات كبيرة وضخمة ومؤثرة على مُعطيات خاطئة،مُتهافتة. ولكن تركيبها الخطابي يكون فعالا لظروف سياسية وظروف صناعة الوعي وتزييفه وفق رغبة صانعي الخطاب وداعميهم الخارجيين. الحقيقة العلمية ليست هي الفيصل هنا دائما وبذلك فإن التعبئة العرقية لخطابات حركات الهامش المُسلحة منذ قيام الحركة الشعبية في العام 1983، مرورا بحركات دارفور، تعود في أصلها الثقافي لتلك الآيدلوجيا العرقية الخاطئة معرفيا والفعالة سياسيا.

 

هي خاطئة طبعا لأنها تقوم على الاختزال المُتعمد للحقيقة، فثقافة السودانيين شمالا وشرقا وجنوبا وغربا كانت نتاج تفاعل قديم جدا حدث على هذه الجغرافيا. القوالب العرقية خاطئة ومضلة لذا فصفة زنجي وعربي وبجاوي وغيرها، لا تحمل مضمون جوهري، بل تُعرف وفق غاية السياسي صانع الخطاب. السودان هو عروبة سودانية خالطت العناصر المحلية، والسودان إفريقي جنوب صحراوي زنجي، تولدت ثقافته عبر تفاعل مع الإسلام واللغة العربية وتفاعل مع روافد أفرقية من غرب إفريقيا. وهو كذلك سكانيا خليط من هجرات قديمة وجديدة، تتلاقح ثقافتها على أرض الوادي فكانت ممالك السودان في القرن السادس عشر الميلادي مثل مملكة سنار والفور وتقلي والمسبعات تحمل هذا الحمض النووي. بل حتى التاريخ البعيد للسودان عرف هذا التفاعل مع حوض البحر المتوسط, ومع ثقافات شرق البحر الأحمر، ومع ممالك إفريقيا الجنوبية والغربية. بذلك فالقومية السودانية لن تقوم على عنصر واحد. ولن تكتمل باسقاط أي عنصر من عناصرها، فقيامها التام يأتي من احتشاد جميع هذه العناصر والمُركبات، وهذا أمر يتم عبر صيرورة سياسية على قاعدة مادية لدولة وطنية قوية.

 

دولة وطنية قوية مُستقلة، هذا تحديدا ما لا تريده قوى خارجية كثيرة للسودان، فاستغلت ظروف ضعفه عبر محطات عديدة، لا سيما المراحل الانتقالية التي تعقب كل تحول سياسي عنيف. لذا فاليوم نشهد مرحلة جديدة لخطاب الانفصال والتقسيم، حيث رأى البعض أن بناء السودان الجديد المُشكل غربيا وصهيونيا بات قريب المنال. فصرنا نرى خفوتا في خطاب الانفصال والتقسيم من قبل الحركات، وصعودا في المقابل لخطاب انفصالي جديد كرد فعل بدأ منذ نهايات المرحلة الانتقالية السابقة بعد اتفاقية السلام الشامل 2005 حتى انفصال جنوب السودان.

 

هذا هو خطابُ الانفصاليين الشماليين، وقد كان أيقونته حينها الأستاذ الطيب مصطفى رحمه الله، هذا الخطب ينبع عن ضجر بالابتزاز الطويل الذي مارسته نخب السودان الجديد على الدولة، وينبع كذلك عن رد فعل عرقي يصنع في المقابل آيدلوجيا عرقية مُضادة للآيدلوجيا العرقية للحركات المُسلحة، كذلك ينبع عن ضيق أفق كبير بالمُعطيات المادية المُعقدة لبناء الدولة وبالظروف الخارجية للنظام العالمي. فيصنع حلما أسطوريا بدولة الشمال النقية غير المتناقضة والمُنسجمة في هويتها. فبعد انفصال الجنوب وعقب أكثر من عقد من الزمان هاهي الدعوات الانفصالية الشمالية تنبعث من جديد، لتخلق قاعدة وخطاب وسط المجال السياسي، دعوات انفصالية شمالية تُطلب تحررا نهائيا من غرب البلاد ومن جنوبها الجديد.

 

هذه الدعوات برمتها لا تقدم حلا للواقع، فغدا سيطلب الشرق انفصاله عن الشمال، لأن فرضية انسجام الشرق والشمال نفسها في الدولة المُضحكة التي تُسمى (النهر والبحر) هي فرضية قد يأتي من يرفضها لاحقا بل وهناك من يرفضها اليوم أصلا، ثم بعد مدة طويلة ستنقسم دولة الشمال نفسها ليتحد النوبة العليا فيها مع النوبة السفلى في مصر. ووقتها ستكون دارفور قد انقسمت والجنوب كذلك. دويلات صغيرة تُذكرك بملوك الطوائف في لحظة انحطاط الأندلس، ولكن الزمن المُعاصر لا يسمح بدول ملوك الطوائف المعزولة, بل سيسمح بدويلات صغيرة تحكمها نخب فاسدة، تُسيطر عليها الشركات العابرة للقارات. تنهب مواردها فيكون أهلها عبيد في الداخل أوشتات في الخارج.

 

خطابات الانقساميين الشماليين هذه تُعطي شعورا وهميا بالاكتفاء بذاتها، واستغنائها عن غيرها. والسبب هو ذلك التفاوت في التطور بين حواضر الوسط والشمال, حيث نشأ هنا مفهوم للقومية السودانية متصل للمفارقة بحركة الجنود والضباط الأوائل السودانيين من ذوي الأصول التي كانت مُسترقة في يوم من الأيام، هذه الفئة مُضاف إليها فئة المثقفين الأوائل للحركة الوطنية أمثال عبيد حاج أمين، هم أول الفئات التي رسًخت لمفهوم الوطنية السودانية. هذه الوطنية كانت مراكزها الجغرافية هي هذه الحواضر التي أنشأها المستعمر في الوسط الشمالي. لذلك فإننا نرى أن الخطاب الانفصالي الشمالي هو ارتداد منحط عن الوطنية السودانية التي نشأت في الشمال أساسا، لكنه الشمال ووسط جغرافي غير عرقي كما رأينا ذلك في حضور الضباط ذوي الأصول المُسترقة. كان لهذه الوطنية قدرة على استيعاب جميع الفئات الاجتماعية والطبقات، مع تطور الدولة وجهازها عبر التنمية والتخطيط الاقتصادي الذي يضمن حقوقا اجتماعية عادلة لجميع السودانيين، وهذا مُعطى مادي وقف عائقا أمام نمو الوطنية السودانية. فلقد إستمر النمط الرأسمالي المركزي الموروث من المستعمر والذي يستغل ثروات الريف والأقاليم ومناطق الانتاج ليُركزها في صفوة المدن المُتصلة بحركة التصدير للخارج. فتستمر الهجرة للأرياف ويستمر معها خلق هوية المدينة الاستعمارية وتلك الأحياء المُتراصة في خريطة عرقية لا تنسجم. فتشتغل ميكانيزمات خلق الهوية كجزء من أدوات التعريف الاجتماعي للأفراد في المدينة، ونشهد بعد عقود عودة سؤال القبيلة لينتشر داخل أحياء الطبقة الوسطى فيكون التساؤل: من أين نحن؟ وماهي قبيلتنا؟ تساؤل يطرحه الجيل اللاحق على جيل الآباء والأجداد في مُفارقة صنعها الفشل السياسي في بناء الأمة السودانية.

 

نتساءل نحن أيضا: ماهي حدود هذه الدول الصغيرة المُنفصلة؟ ماهو الحل لتراكم رؤوس الأموال فيها، عبر شرايين وأوردة قديمة مرت عبرها فوائض القيمة من الأرياف شمالا وشرقا وغربا؟ ماهو الحل للترابط العميق والتزاوج في أحياء المدن شمالا ووسطا وشرقا وغربا بين أهل السودان كافة ومن مختلف القبائل؟ كيف سيكون التقسيم الموضوعي للقبائل بين نهر وبحر وغرب وجنوب؟ كيف يستطيع رجل عاقل التمييز الدقيق لغرب النيل الأبيض حتى دارفور ليضع فيه حدودا بين كردفان الغربية الشرقية والجنوبية؟ كيف يضع حدود للخريطة العرقية لقبائل الكبابيش والكواهلة والمجانين ودار حامد والمعاليا أولاد حميد والرزيقات والجوامعة والبديرية وغيرهم كثير؟

 

هذه التساؤلات تنسف تماما مثل هذه الأفكار الانفصالية، لكننا هنا لنؤكد أن الحقيقة التاريخية والعلمية والجغرافية ليست هي العامل الحاسم لهزيمة هذه الأفكار الرومانسية، شديدة الفعالية، المُستندة على الخوف العميق من المستقبل. بل العامل الحاسم والفعال هو نقد جذور الانفصاليين في خطابات الحركات المُسلحة، ثم العمل على برنامج وطني عملي عادل، ثم المُحافظة على المكونات القومية لجهاز الدولة في الخدمة العامة والجيش وغيرها. وقبل كل ذلك هزيمة التصور الرأسمالي النيوليبرالي لخلق دولة تخدم الناس، وترعى الاقاليم جميعها فتُعظم الانتاج وتخلق سياسات عدالة في التوزيع لتتشكل الأرضية المادية للتفاعل الثقافي والحضاري في السودان.

 

اترك رد