” دولة وطنية قوية مُستقلة، هذا تحديدا ما لا تريده قوى خارجية كثيرة للسودان، فاستغلت ظروف ضعفه عبر محطات سياسية عديدة، لا سيما المراحل الانتقالية التي تعقب كل تحول سياسي عنيف. واليوم نشهد مرحلة جديدة لخطاب الانفصال والتقسيم، حيث رأى البعض أن بناء السودان الجديد المُشكل غربيا وصهيونيا بات قريب المنال.
فصرنا نرى خفوتا في خطاب الانفصال والتقسيم من قبل الحركات، وصعودا في المقابل لخطاب انفصالي جديد كرد فعل بدأ منذ نهايات المرحلة الانتقالية السابقة بعد اتفاقية السلام الشامل 2005 حتى انفصال جنوب السودان.
هذا هو خطابُ الانفصاليين الشماليين، وقد كان أيقونته حينها الأستاذ الطيب مصطفى رحمه الله، هذا الخطب ينبع عن ضجر بالابتزاز الطويل الذي مارسته نخب السودان الجديد على الدولة، وينبع كذلك عن رد فعل عرقي يصنع في المقابل آيدلوجيا عرقية مُضادة للآيدلوجيا العرقية للحركات المسلحة.
كذلك ينبع عن ضيق أفق كبير بالمُعطيات المادية المُعقدة لبناء الدولة وبالظروف الخارجية للنظام العالمي. فيصنع حلما أسطوريا بدولة الشمال النقية غير المتناقضة والمُنسجمة في هويتها. فبعد انفصال الجنوب وعقب أكثر من عقد من الزمان هاهي الدعوات الانفصالية الشمالية تنبعث من جديد، لتخلق قاعدة وخطاب وسط المجال السياسي، دعوات انفصالية شمالية تُطلب تحررا نهائيا من غرب البلاد ومن جنوبها الجديد.
هذه الدعوات برمتها لا تقدم حلا للواقع، فغدا سيطلب الشرق انفصاله عن الشمال، لأن فرضية انسجام الشرق والشمال نفسها في الدولة المُضحكة التي تُسمى (النهر والبحر) هي فرضية قد يأتي من يرفضها لاحقا، بل وهناك من يرفضها اليوم أصلا، ثم بعد مدة طويلة ستنقسم دولة الشمال نفسها ليتحد النوبة العليا فيها مع النوبة السفلى في مصر.
ووقتها ستكون دارفور قد انقسمت والجنوب كذلك. دويلات صغيرة تُذكرك بملوك الطوائف في لحظة انحطاط الأندلس، ولكن الزمن المُعاصر لا يسمح بدول ملوك الطوائف المعزولة، بل سيسمح بدويلات صغيرة تحكمها نخب فاسدة، تُسيطر عليها الشركات العابرة للقارات. تنهب مواردها فيكون أهلها عبيد في الداخل أوشتات في الخارج.
خطابات الانقساميين الشماليين هذه تُعطي شعورا وهميا بالاكتفاء بذاتها، واستغنائها عن غيرها. والسبب هو ذلك التفاوت في التطور بين حواضر الوسط والشمال، التي نشأ فيها مفهوم للقومية السودانية متصل للمفارقة بحركة الجنود والضباط الأوائل السودانيين من ذوي الأصول التي كانت (منبتة قبليا أو مسترقة) في يوم من الأيام، هذه الفئة مُضاف إليها فئة المثقفين الأوائل للحركة الوطنية أمثال عبيد حاج أمين، هم أول الفئات التي رسًخت لمفهوم الوطنية السودانية.
هذه الوطنية كانت مراكزها الجغرافية هي هذه الحواضر التي أنشأها المستعمر في الوسط الشمالي. لذلك فإننا نرى أن الخطاب الانفصالي الشمالي هو ارتداد منحط عن الوطنية السودانية التي نشأت في الشمال أساسا، لكنه الشمال ووسط جغرافي غير عرقي؛ كما رأينا ذلك في حضور الضباط ذوي الأصول المُسترقة والمنبتة عن القبيلة. كان لهذه الوطنية قدرة على استيعاب جميع الفئات الاجتماعية والطبقات، مع تطور الدولة وجهازها عبر التنمية والتخطيط الاقتصادي الذي يضمن حقوقا اجتماعية عادلة لجميع السودانيين، وهذا مُعطى مادي وقف عائقا أمام نمو الوطنية السودانية.
فلقد إستمر النمط الرأسمالي المركزي الموروث من المستعمر والذي يستغل ثروات الريف والأقاليم ومناطق الانتاج ليُركزها في صفوة المدن المُتصلة بحركة التصدير للخارج. فتستمر الهجرة للأرياف ويستمر معها خلق هوية المدينة الاستعمارية وتلك الأحياء المُتراصة في خريطة عرقية لا تنسجم.
فتشتغل ميكانيزمات خلق الهوية كجزء من أدوات التعريف الاجتماعي للأفراد في المدينة، ونشهد بعد عقود عودة سؤال القبيلة لينتشر داخل أحياء الطبقة الوسطى فيكون التساؤل: من أين نحن؟ وماهي قبيلتنا؟ تساؤل يطرحه الجيل اللاحق على جيل الآباء والأجداد في مُفارقة صنعها الفشل السياسي في بناء الأمة السودانية.
نتساءل نحن أيضا: ماهي حدود هذه الدولة الصغيرة المُنفصلة؟ ماهو الحل لتراكم رؤوس الأموال فيها، عبر شرايين وأوردة قديمة مرت عبرها فوائض القيمة من الأرياف شمالا وشرقا وغربا؟ ماهو الحل للترابط العميق والتزاوج في أحياء المدن شمالا ووسطا وشرقا وغربا بين أهل السودان كافة ومن مختلف القبائل؟
كيف سيكون التقسيم الموضوعي للقبائل بين نهر وبحر وغرب وجنوب؟ كيف يستطيع رجل عاقل التمييز الدقيق لغرب النيل الأبيض حتى دارفور ليضع فيه حدودا بين كردفان الغربية الشرقية والجنوبية؟
كيف يضع حدود للخريطة العرقية لقبائل الكبابيش والكواهلة والمجانين ودار حامد والمعاليا أولاد حميد والرزيقات والجوامعة والبديرية وغيرهم كثير؟
هذه التساؤلات تنسف تماما مثل هذه الأفكار الانفصالية، لكننا هنا لنؤكد أن الحقيقة التاريخية والعلمية والجغرافية ليست هي العامل الحاسم لهزيمة هذه الأفكار الرومانسية، شديدة الفعالية، المُستندة على الخوف العميق من المستقبل. بل العامل الحاسم والفعال هو نقد جذور الانفصاليين في خطابات الحركات المُسلحة،
ثم العمل على برنامج وطني عملي عادل، ثم المُحافظة على المكونات القومية لجهاز الدولة في الخدمة العامة والجيش وغيرها. وقبل كل ذلك هزيمة التصور الرأسمالي النيوليبرالي لخلق دولة تخدم الناس، وترعى الاقاليم جميعها فتُعظم الانتاج وتخلق سياسات عدالة في التوزيع لتتشكل الأرضية المادية للتفاعل الثقافي والحضاري في السودان “