ما من حديث يدور هذه الأيام في أوساط الناس إلا عن التفلتات الأمنية التي اصبحت ظاهرة متكررة يوميا تحدث جهاراً نهاراً امام اعين الشرطة وهي لا تحرك ساكناً وكان الأمر لا يعنيها في شئ . لا يعني ذلك تقاعساً أو تهرباً منها ولكنها ترى أن هنالك مبررات قوية قادت لهذه التفلتات الأمنية . الأجهزة الأمنية تدرك النظرية الأمنية التي تشير إلى أن الأمن سيكون مستتباً اذا توفرت الحاجات الضرورية والأساسية لحياة الإنسان اما اذا انعدمت تلك الضروريات فأن عقد الأمن سينفرط. الأجهزة الأمنية معاناة أسرهـا أكبر من معانات مواطنيها. الأجهزة الأمنية اصبحت في حيرة من أمرها بين مطرقة الحكومة التي تكلفها بحفظ الأمن ولا توفر لها الحماية الأزمة و الحصانة الإجرائية وهي تؤدي واجباتها وبين سندان مواجهة مواطنيها الجياع . قد يرى البعض أن الحاجات الضرورية متوفرة ولكن غلاء الأسعار جعلها متوفرة للأغنياء فقط. الحكومة تصرف السلاح للأجهزة الأمنية لحفظ الأمن والاستقرار ومع ذلك تتهمها بالافراط في استخدام القوة وتتوعدها بتوقيع اقصى العقوبات في إطار الكسب السياسي الرخيص للمواطنين على حساب الأجهزة الأمنية. أذكر هنا عندما كنت نائباً لرئيس لجنة أمن ولاية الخرطوم كنا نركز في حفظ الأمن على توفير الحاجات الضرورية وكان الوالي والمحافظون يهتمون بذلك كثيراً . كانوا يشاركون في مشروع العين الساهرة الذي يبدأ يومياً بعد منتصف الليل ويستمر حتى صلاة الصبح ويتم فيه الطواف ليلاً على كل المحافظات للتأكد من استباب الأمن. كذلك كنا نحرص ونهتم كثيراً في كل عام بتدريب الأجهزة الأمنية عن طريق تمرين (الخرطوم سلام) بمشاركة كل الأجهزة الأمنية حتى يتقن كل فرد واجبه. كنا نطبق شعار تأمين قوي ولكنه خفي فالتأمين الظاهر لا يبعث على الطمأنينه. خلال تلك الفترة كانت الخرطوم توصف بانها اكثر عاصمة أمناً في العالم حيث كان السفير الامريكي يمارس رياضته الصباحية على شارع النيل بلا حراسة أو رقابة كما كان الصادق المهدي (رحمه الله) يتجول في احياء العاصمة ممتطياً صهوة جواده . نحمد الله على تركنا للخدمة العامة قبل ان نشهد مجيء هذا الزمن الرديئ الذي اذل الشعب السوداني وجرح كبرياءه بعد أن أصبح يقتات من زكاة الزرع والمال من المسحيين!! قاد هذا الوضع المزري السيء الهجرة المكثفة الى العالم الخارجي بحثاً عن سبل العيش الكريم. مكانة الدولة في الاسرة الدولية تتوقف الى حد كبير على مدي ما تنعم وتتمتع به من أمن واستقرار داخلي وتقدم في مختلف المجالات التي تلعب دوراً كبيرا في استباب حالة الأمن خاصة المجال الاقتصادي . الدول الأقل نمواً وتنمية واكثر فقراً هي التي تعاني من انفراط عقد الأمن على عكس الدول المتقدمة اقتصادياً التي تنعم بالأمن والاستقرار والتقدم الداخلي كمثال دول الخليج والدول الاسكندنافية. احدث تعريف للأمن هو ما جاء به وزير الدفاع الأمريكي الاسبق ومدير صندوق النقد الدولي الأسبق (روبرت ماكنمارا) الذي وصف الأمن بأنه هو (التنمية) بمفهومها الشامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والبيئي . اوضح روبرت ماكنمارا كذلك بأن القوة العسكرية لوحدها غير كافية وقادرة على فرض حالة الأمن والحفاظ عليه واذا كان ذلك ممكناً لما نجحت ثورة الشباب الذكية. من هذا المفهوم يعتبر أن أساس الأمن يتمثل في بناء اجتماعي مستقر عن طريق التقدم الاقتصادي والسياسي والثقافي . لقد كان الإسلام سباقاً في هذا المجال حيث نادي بالاطعام من الجوع وربطه بتحقيق الأمن . الإسلام اهتم كذلك بالمفهوم الاجتماعي للأمن حيث نادى واهتم بالعدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي بين كل أجزاء المجتمع من أجل تحقيق أمنه واستقراره. لو طبقت حكومتنا السنية المفهوم الاجتماعي للأمن الذي نادى به الإسلام لكفاها ذلك شر الاتهامات الموجهة لها في حسم ظاهرة التفلتات الأمنية وانتشار حوادث النهب والسلب بشوارع الخرطوم نهاراً جهاراً في تحدي واضح للحكومة يقدح كثيراً في قدرتها على بسط الأمن والاستقرار حتى على مستوى العاصمة ناهيك عن بقية الولايات مما أفقد الحكومة هيبتها. ظاهرة التفلتات الأمنية افقدت الدولة هيبتها وعكست فشلها الذريع في القيام بمسؤوليتها التخصصية كسلطة تنفيذيه. إنعدام الأمن تسببت فيه الحكومة بعدم اهتمامها بحياة المواطنين وانشغالها بصراعاتها الداخلية على كراسي السلطة. الحكومة هي المسؤول الأول والأخير عن ظاهرة التفلتات الأمنية أما الأسباب الأخرى فهي من افرزات تلك الظاهرة . ظاهرة التضخم غير المسبوقة تسأل عنها الحكومة بقراراتها التعسفية وسياساتها العشوائية وتطبيقها لسياسة التحرير بصورة مطلقة لا تطبقها حتى الدول التي تتبع النظام الرأسمالي . فشل الحكومة عبرت عنه مبادرة رئيس الوزراء التي كان القصد منها الباس ثوب الفشل لشركاء الفترة الانتقالية بالرغم من أن ما تضمنته تلك المبادرة هو من صميم مسؤولية رئيس الوزراء ويحتاج التنفيذ لقرارات سياسية شجاعة وارادة سياسية قوية ولكنها غير متوفرة وغياب القرار السياسي في هذا المجال قاد الى الاحتقان السياسي والأمني الذي تشهده البلاد حالياَ. تشكيل الآلية للمبادرة يعني أن المبادرة قد شبعت موتاً والآلية التي تم تشكيلها لانقاذ المبادرة ستزيد الأزمة تعقيداً. الحكومة اعتمدت في معالجة الأزمة الاقتصادية على الخارج فرهنت قرارها الاقتصادي لصندوق النقد الدولي وقاد ذلك إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى 422% ونجم عن ذلك ارتفاع الأسعار بصورة جنونية جعلت حياة المواطنين جحيماً لا يطاق مما قاد لأعمال السلب والنهب للممتلكات العامة والخاصة بواسطة العصابات التي تملك أسلحة نارية. الارتفاع الجنوني للتضخم أفقد العملة الوطنية قيمتها حيث أصبحت الفئات الأقل من مائة جنيه لا يقبلها البائع. الحكومة عزت الأزمة الاقتصادية إلى المؤسسات الاقتصادية للأجهزة الأمنية بالرغم من الدور الكبير الذي تلعبه هذه المؤسسات الاقتصادية في خدمة الاقتصاد الوطني وتوفير الضروريات للمواطنين وخير شاهد على ذلك ما تقوم به شركة زادنا العالمية والمؤسسة العسكرية التعاونية وبنك أم درمان الوطني الذي لعب دوراً كبيراً في التنمية. هذه الأجهزة تخضع لمراجعة ديوان المراجع العام للدولة. الإساءة المبرمجة والممنهجة للأجهزة الأمنية التي فتحت لها الحكومة أجهزتها الإعلامية الرسمية أضعفت الروح المعنوية للأجهزة الأمنية. حل قوات العمليات التابعة لجهاز الأمن وحصر دور الجهاز في جمع المعلومات فقط وتجميد نشاط الخدمة الوطنية وحل الشرطة الشعبية وقفل مراكز بسط الأمن الشامل وحل الدفاع الشعبي لعب كل ذلك دوراً كبيراً في حالة الإنفلات الأمني التي تعيشها البلاد حالياً. الوجود المكثف لحركات التمرد بالعاصمة القومية غير قانوني لأن هذه الحركات لم يتم دمجها في الأجهزة الأمنية حتى هذه اللحظة ووجودها بالعاصمة يأتي كوسيلة ضغط على الحكومة لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية وهذا مؤشر قوي على ضعف الحكومة التي فشلت في إخراجها من العاصمة. الشراكة التعيسة في الحكم عكست كراهية المدنيين للعسكريين وعدم رغبتهم في مشاركة العسكريين لهم في السلطة. هذه الشراكة بسلوكها المتنافر والمتشاكس وإنعدام الثقة بينها أصبحت أكبر مهدد للأمن بالبلاد. تنامي نسبة البطالة وعدم اهتمام الحكومة بقضايا الشباب قادهم لليأس وتعاطي المخدرات والتي تحت تأثيرها يتم ارتكاب الجرائم. موجات النازحين ودخول اللاجئين من دول الجوار للعاصمة بعاداتهم وثقافاتهم الدخيلة على المجتمع كل ذلك لعب دوراً كبيراً في تطور الجريمة حيث أصبح اللاجئون يشكلون عصابات مسلحة للقيام بأعمال النهب والسلب وارتكاب الجريمة المنظمة. فشل الحكومة في إكمال السلام العادل والشامل والمستدام قاد لتوقف وتعطيل مشاريع التنمية بمناطق الإنتاج هذا بالإضافة للدور الذي لعبته الصراعات القبلية في هذا المجال. عجز الحكومة في النهوض بمسؤوليتها في حسم ظاهرة التفلتات الأمنية عكسه اتهامها للأجهزة الأمنية بأنها هي التي تقصر في القيام بمسؤوليتها واتهام الأجهزة الأمنية هنا يعني أن الحكومة تركز في حسم ظاهرة التفلتات الأمنية على الإجراءات العسكرية فقط وهذا يمثل قمة فشلها. على الحكومة أن تدرك بأن التقلتات الأمنية اذا لم يتم تداركها بمعالجة جذورها الأساسية قبل فوات الأوان فإنها سوق تصبح مدخلاً للتدخلات الخارجية تحت دعاوى الحفاظ على حقوق الإنسان وتقديم المساعدات للمحتاجين من أجل الحفاظ على أمن المنطقة والاقليم. ضعف العقوبات الموقعه على المجرمين واطلاق سراحهم بحجه عدم كفاية الأدلة.عدم توفر الحماية اللأزمة والحصانة الاجرائية للاجهزة الأمنية عندما تقوم بتأدية مسؤلياتها. على الحكومة أن تدرك أن هيبة الدولة من هيبة جيشها وأجهزتها الأمنية والحكومة التي لا تحترم جيشها وأجهزتها الأمنية ليست جديرة بالاحترام والبقاء. خلاصة القول: الحكومة هي المسؤول الأول والأخير عن التفلتات الأمنية لأنها فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة شؤون الدولة.هل تدرك الحكومة أن ذلك سيكون بداية لانطلاق ثورة الجياع القادة ؟ ختاماً: المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو الدعوة لانتخابات مبكرة خلال عام واحد فقط لأن الوقت ربما لا يسعف الفترة الانتقالية بالوصول إلى نهايتها. وبالله التوفيق