عزمي عبدالرازق يكتب.. الوطن من مكانٍ آخر “٤”
بعد أشهر طويلة من تقييد حركة الدخول إلى أبوظبي، أعلنت لجنة الطوارئ الصحية أخيراً إلغاء متطلبات فحوصات كورونا، وستكون، بعد هذا اليوم، الإمارة الثرية المُدللة، متاحة للجمهور، كل الجمهور، مع حجب السوار الإلكتروني للحجر المنزلي للقادمين من السفر والمخالطين. قال لي رفيقي ضاحكاً:”قدمك قدم السعد علينا” . قلت له، بل هى كرامات مولانا الميرغني٠ الذي حطت طائرته اليوم في مطار أبوظبي، مُفسحين لها المجال باتساع الجبة الختمية، وآظن أن هذه الزيارة، لسبب ما، لها علاقة بتطورات الأوضاع في الشرق، إن لم يكن ثمة أمر آخر جلل بعث مولانا من مرقده المُزّمن، لنقُل عُزلته المجيدة، فهو مولانا أين حلّ حلت البركة، وسيرة الانتخابات والملمات الكبيرة.
في حفل لإيمان الشريف مساء الجمعة بفندق كروان بلازا على ضاحية جُمّيرا الموارة بالحياة، تداعى مئات السودانيين لحضور الحفل، وجلسوا كسائر عهدهم في تهذيب محفز، وجمال مكتنز بالصحة، قبل أن يقوموا بعدها بتحطيم المحاذير الصحية، حين أخرجهم الطرب من وقارهم الخاطف، فيما جلبت إيمان معها شاعرها أحمد كوستي، ليتعرف عليه جمهور الإمارات، وهو_ على الأرجح_حفلها الأول هنا، ما جعلها تبدو خجولة متوردة الخدود، وجعل أبرز ملمح شدني إليها إيمان ابنة الجزيرة، سحقها لمظهر “النقطة” بالدراهم، في هذا المساء الخليجي الطروب، رغم أن المكان كان يغص بمن يحبون أغانيها من التجار والفادنية والدهابة أيضاً، يرتدون مراكب النمور الفخيمة، والجلاليب البيضاء والشالات المطرزة لتأكيد سودانيتهم.
تناولنا وجبة الغداء مع صديق عزيز في إمارة عجمان، لا أريد أن أقصم ظهره بذكر اسمه، لكنه من العُصاميين الذين صنعوا نجاحات باهرة في الخليج، وعكّس صورة بهية عن بلده، وعن دنقلا وعطبرة معاً، وقد فتح، أي صديقنا الصدوق، عشرات البيوت داخل السودان لقناعة راسخة بتعميم الفائدة، وبعد التغيير قدم مقترحاً لمشروع كان يمكن أن يدر على الخزينة المركزية ملائين الدولار، لكن كدأب أهل الانتقال البطال وضعوا في طريقه المتاريس واضطروه للانسحاب بهدوء، فيما كانت داره تحفها البركات وتواشيح الكرم السوداني الأصيل، وقد آثر علينا، صديقنا المُجد، وهو يخدمنا بنفسه، فكان وجدانه عامراً بالنداوة، وداره مثل قلبه رحبة فسيحة، ولا يوجد بالمرة أجمل من أن توفر عُشاً افتراضياً، للطيور المهاجرة، فذلك ما عده الطيب الصالح في مؤسم العودة للشمال. دفء الحياة في العشيرة، ينعمون بالصحبة ويستعيدون الذكريات بعيداً من موطنها، وفي محطات الديسابورا، تهَدْهَدَ وجدانهم الأغنيات القديمة “من قمت من بيتنا ومشيت بطاقتي صورة مصغرة”، واليوم، أو بالأحرى منذ الأمس، ظلوا هم اليد الحانية لأهلهم وجيرانهم، يكفلون آلاف الأسر التي ضاقت بها الحياة، والتهمها العجز الاقتصادي الشره، واستحكمت عليهم، في الأونة الأخيرة كروب شتى، بقى منها في القلب هم وندوب غائرة، وما من أحد طب عليها مثل تحويلات المغتربين، الذين أثقل عليهم وطنهم بقسوة، وحرمهم من الحصول على جمارك مخففة لحاجياتهم، وهم يشاهدون قوافل البوكو تسبح في الصحراء، دون أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، وإذ هى بينة على فداحة الظلم الذي حاق بهم، وهم، على أقل واجب، حقيقيون بالوفاء.
انتهت