عميد م/ ابراهيم مادبو يكتب.. دخان المسارات يعمي العيون، ويخنق الأرواح، ويخفي العدو، ويحجب نور الحقيقة
➖ المسارات ليست صنيعة اليسار وإنما وجدت هوى في قلوب اليسار واليمين معاً، فكل يطرف يظن أنه سيتمكن بها من إدارة الدولة السودانية عبر تفكيك سيطرة الآخر على الدولة بواسطة تجزئية الحلول وتبويبها في مسارات، والمسارات أصلاً هي – وقد لا يعلم بذلك كثير من الناس – إملاء وصنيعة خارجية فرضتها بعض قوى المحاور الأقليمية المدفوعة برغبات الدول الدول الكبرى التي تحرك الأوضاع في السودان بما يكفل لها تحقيق مصالحها في نهاية المطاف، فدائماً في الجانب الآخر من المفاوضات، تبحث الأطراف الدولية والإقليمية عن تحقيق مصالحها الخاصة، وبالتالي تسعى كل دولة إلى توجيه مسيرة التفاوض في الاتجاه الذي يخدم أجندتها.
➖ المسارات للأسف مصطلح ضبابي يغطي كلمة الإنفصالات، فكل مسار يقود إلى مفترق طرق ونهايات تمهد إلى الحكم الذاتي وحق تقرير المصير والإنفصال، وهذه الأجندة نجدها تُستخدم في كل مفاوضات المسارات، ويتم التفاوض عليها دون وعي من المفاوض السوداني، وقد أدى هذا إلى أن يتناولها المتلقي والمواطن السوداني وأهل المسارات بإستسهال وتبسيط ساذج وإعتبارها من الحلول.
➖ المسارات تنخر في السودان منذ مفاوضات نيفاشا وأبوجا والدوحة وجوبا بسبب أن المفاوضات التي كانت تُجرى قامت وما زالت على أسس ضيقة لا تراعي المصلحة الوطنية العليا ولا تحل المشاكل الأساسية التي يعيشها السكان المحليون في مناطق الحرب في الجنوب قبل الانفصال ثم في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وحالياً سينطبق الحال على الشرق.
➖ من المتعارف عليه في فن التفاوض أن نجاح أي مفاوضات رهين بإيجاد حلول شامله لكافة مشكلات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال مؤتمر جامع في ظل حكومة منتخبة وتحظى بإجماع وتوافق وطني، مع ضرورة وجود أجنده وطنية يمكن الاتكاء عليها، ومن الطبيعي أن تفشل أي مفاوضات تتمخض عن اتفاقيات تكون مبنية على أساس المحاصصات وتقاسم السلطة، إذ تؤكد الوقائع أن الحركات الموقعة نفسها هي التي تنقلب على تلك الاتفاقيات سعيا للحصول على مكاسب أكبر، وهو ما حدث فعلا مع حركة مني أركو مناوي، وهذا لأننا لم نأخذ العبرة ونتعلم من الدروس المستفادة التي أدت إلى فشل كل المفاوضات السابقة، وأهمية العمل على تفادي نقاط الضعف التي أدت إلى فشل الوصول إلى سلام دائم في السابق، وكان يمكن بقليل من الوعي الوطني أن نقوم بدراسة كل مآلات المفاوضات وسنعلم وقتها أن اتفاق الدوحة لسلام دارفور، هو نسخة معدلة لاتفاق كانت الحكومة السودانية قد أبرمته مع حركة جيش تحرير السودان فصيل مني أركو مناوي عام 2006 في العاصمة النيجيرية أبوجا، نصّب بموجبه رئيس الحركة مساعداً للرئيس السوداني، لكن الاتفاق عانى ذات الأعراض التي أوهنت وأضعفت عضد اتفاق الدوحة، وقد أدى انهيار اتفاق أبوجا إلى خروج مناوي من القصر الجمهوري بالخرطوم إلى ميدان القتال في دارفور مرة جديدة، وهذا يثبت فشل الحلول المبنية على تقاسم السلطة والثروة وكان هذا واضحاً من خلال الفشل الكبير الذي أعقب اتفاقيتي الدوحة وأبوجا اللتات جسدتا عقم ذهنية المفاوض السوداني، وعدم قدرتها على رسم خارطة طريق واضحة، تحدد كيف ندير التفاوض وكيف نتحكم في المسارات وعوامل الضبط الخاصة بها لتتطابق المسارات مع الواقع على الأرض.
➖ هناك تحديات كثيرة ومخاطر كبيرة تكتنف الفترة الانتقالية ومنها مسألة المشاركة في السلطة التي لم تحسم حتى الان بالطريقة الصحيحة والمُثلى، وما يحدث الان ليس مشاركة فعلية وإنما محاصصات وترضيات، فلا يعقل أن يتم النظر لهذا البند وتطبيقه في حكومة انتقالية لا تملك السلطة التشريعية والتنفيذية، فكل هياكل الحكم وكل الوزارات في الفترة الانتقالية يكون هدفها التمهيد إلى الإنتقال وليس الحكم، وكل أعمال حكومة الانتقال محددة مسبقا في الإعلان الدستوري الموقع، وأن أي تمثيل للحركات المسلحة أو أي أحزاب وكيانات وتجمعات سياسية في الفترة الانتقالية، يجب ان يكون تمثيلاً يخدم ويهدف للإنتقال نحو الإستحقاق الإنتخابي وليس كما هو حادث الآن، ومازلنا نمارس ما كان يفعله النظام السابق في كل جولات المفاوضات السابقة التي جرت في سنوات عديدة ولم تصل إلى ما كان مرغوبا فيه، بسبب أن كل طرف يعمل على تفتيت الطرف الاخر واللعب على ما تأتي به التشظيات والإنشقاقات، وهذا يحدث بقوة في الشرق ويحسبون أنهم بتأليب المواطنين والعمد والنظار على معاداة تُرك إنما يحسنون صنعاً، وهو في حقيقة الأمر مقاربة خطيرة ستؤدي إلى تفريخ وظهور العشرات ممن يفكرون بنفس منطق تِرك، ولا نستبعد ذلك في الوسط والنيل الأبيض والشمال وكردفان ودارفور وحتى في المنطقتين وأبيي، وعندها سيتسع الخرق على الراتق ولن نسمع سوى إنبشّقَتْ، والإنبشاق كما تعلمون تكون تداعياته خطيرة ومريرة