حسين خوجلي يكتب: الحزب الشيوعي بين سنين القحاطة وأسنان ود آمنة
من المؤكد أن تدبير المخابرات السوفيتية مع المخابرات المصرية والأمن السوداني الذي كان يسيطر عليه الجسم الانقسامي للحزب الشيوعي والقوميين العرب هم الذين استدرجوا الرفاق لمجزرة ١٩ يوليو عام ١٩٧٠ التي أودت بأذكى حزب ماركسي في المنطقة إلى مقبرة التاريخ، وقدمت قياداتهم المدنية والعسكرية مجاناً إلى لؤم الدروة وعذابات المشنقة، وثمناً بخساً لذرائعية الدول التي تطأ بحوافرها أحلام المبدئيين حتى وإن كانوا من ذات الفكرة ومن قلب البرنامج.
صحيح أن الحزب الشيوعي انتقل بعدها من عز التيار العارم العاصف إلى قزمية التنظيم السري والنخبة المستعصمة بدماء ابنائها حزناً وشعراً وغناءً ونشيداً وحكايات، لكنه احتفظ سياسياً بإرث تنظيمي تراكمي كبير تأتى له ذلك رغم سقوط التجارب العملية في الاتحاد السوڤيتي والصين والمنظومة الاشتراكية الاوروبية وهرولة الجميع صوب الفكر الليبرالي والاقتصاد الحر ودعاوى حقوق الانسان. وذات الإرث استخدمه في بناء تحالفاته مع القوى التي تشاركه في فلسفة الصراع مثل القوميين والعلمانيين والشعوبيين وأعداء القيم والثوابت الميتافيزيقية، مما يظل شاهدا على مقدرته التنظيمية في صياغة تحالفات الفترات الغائمة والانتقالية كبناءهم لجبهة الهيئات بأكتوبر ١٩٦٤ التي سيطروا بها على حكومة سر الختم الخليفة، بالرغم من أنهم كانوا آخر المشاركين في المجلس المركزي ( البرلمان المزيف) في ١٧ نوفمبر الذي أدخلهم فيه بيرزنيف بالعصا الحمراء التي تُمهِّر توقيعات الإعانة والبعثات.
وهو ذات الخبث الذكي الذي صنعوا به تحالف القوى التقدمية المزعومة ما بعد مايو فوطدوا به للطغاة الحاكمية والاستمرارية، وحققوا به نصف النجاح ما بعد انتفاضة ابريل ١٩٨٥ التي استطاعوا عبر شعاراتها أن يدمروا جهاز الأمن والمخابرات السوداني، ويبيعوا وثائقه وكوادره في سوق النخاسة الاقليمي والعالمي. وعلى شاكلة الحس التنظيمي والتخابري الموروث من الأربعينات استطاعوا أن يسطوا على الحرية والتغيير قحط ومن قبلها على تجمع المهنيين فعبر هذه اللافتات تجرأوا على تصفية القضاء والخدمة المدنية والشرطة والمؤسسات المنتجة والقوانين وثوابت الأمة لصالح الامبريالية الجديدة وجبهة العلمانيين واشاعوا الخوف وسط الأحزاب القديمة بفقرها الفكري والجديدة بطمعها في الكراسي والمال الحرام.
ولولا لطف الله ودعاء الأتقياء الأخفياء وصمود القوى الوطنية الحية، لكانوا قضوا تماما على القوات المسلحة وبددوا الشعب والوطن لصالح دولة الصراع المجهولة الهوية الرمادية الملامح.
ومن لطف المشيئة أيضاً أن شيطانهم لا يحتمل قسمة الشركاء ولا التكوينات ولا القيادات التي يصنعونها بعرقهم، كتب الله عليهم أن يخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فما زال الشارع والشركاء في حيرة من أمرهم وهم يتسائلون ترى لم قاموا بتمزيق تجمع المهنيين؟ ولم نفضوا أيديهم عن الحكومة؟ ولم غادروا قحط؟
ولا تبرير لذلك في ظني إلا العناية الإلاهية وترفق المقادير بهذا الشعب الطيب.
ولمعرفتي القديمة بتاريخ هذا الحزب منذ أيام الطلبة الأولى بمقدرته على التنظيم باشعال لهيب الثورة الاعلامية وصناعة الهتافات والمواقف وتخويف القوى السياسية المعادية والحليفة وشيطنة الخصوم، فقد صرحت وكتبت مراراً حين خرجوا عن تجمعهم وحكومتهم وشركائهم بأن الجماعة (دبارتم انفكت) فحزب الأمة الحليف يظل رغم جماهريته حزبا عقيما في ادارة الحركة السياسية المعاصرة، وفي افراز القيادات الموهوبة في صناعة المواقف وقيادة الأزمات في مثل هذه المراحل البالغة التعقيد.
أما حزب البعث فهو حزب صغير بأشواق كبيرة وأموال مخبوءة وأحقاد تتجاوز الأفئدة والعقول ، أما المؤتمر السوداني (السنابل) والتجمع الديمقراطي فهم مجرد حفنة من الصبيان والصبايا في عالم السياسة مشغولون باكتشاف الألفاظ والسباحة في نهيرات الرومانسية والأحلام الخواء.
نعم إن الساحة تشهد تساقط أسنان اللبن لهذا التحالف الذي يبدو أنه يُغلق حقائبه المهترئة في عجل بنية المغادرة، ويصمدُ لسان الحزب الشيوعي الزرب في الفتوى والتوصيف باللغة الاستالينية القديمة ،يوجعهم بصوته ويجلدهم بسوطه.
فنظرية الصراع تمنعه من المصانعة والمساومة العملية ووسطية المواقف فشعارهم الأبقى ( لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ).
ولأن حمدوك وياسر عرمان والحاج وراق من جماعة السلفية الشيوعية السابقة يدركون أهمية الحزب الشيوعي في إبقاء منسأة سليمان الانتقالية حية لأطول فترة ممكنة، انتظاراً لحملة الفرنجة للإنقاذ مع علمهم بنفاد (الشونة) وأن المهدي يحاصر الخرطوم. لذا فقد أنشأوا على عجل مبادرة حمدوك التي صُنعت خصيصا لإعادة الحزب العجوز للواجهة. وكان أول اجتماع نظمه عرمان بين الحزب الشيوعي ورئيس الوزراء، فلما رفع الحزب سقف مطالبه ورفض العودة انهارت المبادرة وانهار حمدوك وانهارت حكومة الأصفار التي تلفظ الآن أنفاسها الأخيرة.
يظل كل رأسمال الحزب الشيوعي في ازمنة زلزال الاشتراكية الكبير هذا اللسان الذي يماثل لسان شاعر البطانة الحاذق الكبير.
فقد حكى لي الفنان المثقف عبد الكريم الكابلي -شفاه الله وأعاده إلى وطنه سالماً غانماً – أنه في الستينات قابل الشاعر الصادق ود آمنة شاعر الشكرية الكبير ودعاه إلى منزله وقضى معه ثلاثة أيام بلياليها مستأثرا باشعاره الفياضة وحكاياته النوادر. وبعدها بسنوات قابله مرة أخرى فلحظ أن أسنانه قد تساقطت فقال له ممازحاً: أين ذهبت الأسنان يا ود آمنة؟
فرد الشاعر ساخراً : دة لسانا بتجاور يا الكابلي أخوي؟
فاذا كان لنا تفسير نهديه لعصابة الأربعة وهي تهم بالمغادرة -غير مأسوفٍ عليها- وتبحث عن سببٍ وجيه لمغادرة الرفاق للتجمع وقحط، نهديهم إجابة ود آمنة الشافية (دة حزباً بتجاور يا شيخ سنهوري؟)