حليم عباس يكتب.. في نقد ثورة ديسمبر (4) .. هذا هو البديل الذي نطرحه
نموذج الثورة للتغيير يقوم على فكرة استلام السلطة بواسطة قوى ثورية بموجب شرعية ثورية تتيح لها تغيير الأوضاع السياسية و الاجتماعية في الدولة وفق تصور معين تصوغه قوى الثورة. آلية هذا النموذج لتحقيق هدف الاستيلاء على السلطة هي الحراك الثوري الذي يصل إلى نقطة ينحاز فيها الجيش إلى الثورة ليسقط السلطة القائمة و يسلمها إلى قوى الثورة. هذا هو النموذج الذي تبنته ثورة ديسمبر: حراك ثوري يراهن على انحياز المؤسسة العسكرية وصل في النهاية إلى اعتصام القيادة العامة للجيش و مطالبة الجيش باستلام السلطة، و انتهى الأمر بشراكة كورنثيا. بعد انتهاء شراكة كورنثيا بقرارات 25 اكتوبر يطل هذا النموذج من جديد مع موجة أخرى يُراد لها أن تكون أكثر جذرية من ديسمبر؛ موجة تستولي على السلطة كاملة و تجعلها مدنية خالصة، تقوم بعدها قوى الثورة بموجب الشرعية الثورية بإعادة صياغة الأوضاع في كل مناحي الحياة في البلد، بدءاً بإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية و ليس انتهاءً بالدستور و نظم الحكم و القوانين، كل ذلك تقوم به قيادة ثورية تنتجها ميكانزمات الحراك الثوري و لكنها قد تشارك كل فئات الشعب السوداني وفق تصور تحدده هي، أي تحدده القيادة.
هذا النموذج المجرد يواجه مشكلات واقعية عندما يتنزل على الأرض، في المرة السابقة أي ثورة ديسمبر، أنتج لنا هذا النموذج شراكة كورنثيا؛ في تلك المرة أنتجت “ميكانزمات الثورة” الثورة قيادة تمثلت في تجمع المهنيين ثم قوى الحرية و التغيير، و بعد مفاوضات طويلة في ظل حالة من الفوضى السياسية و دماء و مأساة فض الاعتصام جاءت وثيقة كورنثيا التي أطرت لسنتين من التخبط و الفشل السياسي الذي انتهى إلى فض الشراكة بواسطة الشريك العسكري في 25 اكتوبر. كتلة واسعة من قوى الثورة اعتبرت الأمر انقلاباً و لكن هذه الكتلة – بغض النظر عن حجمها – لا تمثل كل القوى السياسية و المجتمعية في البلد؛ و بينما تريد بعض قوى السلطة العودة إلى إطار كورنثيا، على الأقل كنقطة انطلاق للحوار ، يبرز تيار قوى في قوى ثورة ديسمبر يعمل على تفجير ثورة جديدة بشعارات أكثر جذرية ترفض التفاوض و المساومة و الشراكة، و يهدف إلى تصحيح ما يعتبره “خطأ كورنثيا” أي خطأ الشراكة مع العسكر. هذا الاتجاه الجديد على الرغم من كل جذريته، إلا أنه يتحرك داخل النموذج ذاته؛ نموذج ديسمبر، و نموذج الثورة الشعبية في السودان، و المتمثل في حراك ثوري و صمود و تضحيات يعقبها انحياز الجيش و الانقلاب على السلطة القائمة و تسليمها لقوى الثورة. و إذا كان هذا النموذج قد أفضى من قبل إلى إطار كورنثيا المعطوب، فإنه الآن يواجه بواقع مختلف و أكثر تعقيداً بكثير من واقع ديسمبر، لأسباب ذكرناها في الأجزاء السابقة من هذه السلسة يُمكن لمن يريد ان يرجع لها. و لكن الأهم من نموذج الإطاحة بالسلطة القائمة ذو الطابع الإجرائي ( أعني كيفية الاستيلاء على السلطة) هو المشروع السياسي لما بعد الاستيلاء على السلطة؛ و كما قال غرامشي فإن “طريقة الوصول إلى السلطة تحدد طريقة ممارستها”، و لقد رأينا أمثلة لهذه الممارسة في إطار كورنثيا السياسي خلال أكثر من سنتتين و لا حاجة إلى تفصيل.
إن الحراك الحالي و الذي يرفع شعارات ثورية جذرية هو حراك داخل ذات الأفق الفكري و السياسي لثورة ديسمبر، يتبنى نفس النموذج للتغيير الثوري، و يحمل نفس الوعي السياسي، و هو في رأينا وعي سياسي عاجز عن تقديم حلول واقعية، بل هو عاجز حتى عن استيعاب الواقع السوداني بشكل سليم، لأنه وعي ديسمبري اختزالي تسطيحي و منغلق على نفسه و مفارق للواقع، و القوى التي تقوده هي قوى محصورة سياسيا و فكريا و اجتماعيا ضمن حدود معينة لا تشمل كل الواقع السوداني. و لذلك فنحن لا نتفق مع هذا النموذج لا في تصوره للواقع، و لا في نموذجه للتغيير و لا في مشروعه السياسي. و لكننا بالطبع نتفق مع التوجه العام للشعب السوداني المتطلع إلى الديمقراطية و الحرية و السلام و الاستقرار و العدالة.
الطريق الآخر الذي نطرحه يبدأ بنقد ما أسميه أفق ثورة ديسمبر المنغلق و الضيق من أجل تجاوزه نحو أفق وطني أكثر انفتاحاً و اتساعاً؛ أُفق الوحدة الوطنية و الحوار و التصالح. و نعتقد أنه هذه هي البداية الصحيحة لمواجهة المشكلات الحالية المتمثلة في خطر الاستبداد، خطر الحرب و تفكك الدولة السودانية أو خطر الاضطرابات و عدم الاستقرار.
البداية الصحيحة هي وحدة مكونات الشعب السوداني و توافقها على أجندة وطنية شاملة.
فمن الناحية الإجرائية، نموذج التغيير الصحيح في نظرنا هو نموذج الانتخابات، و هو نموذج السلطة الديمقراطية المنتخبة، كمقابل لنموذج السلطة المدنية الثورية التي تأتي عبر ثورة و انقلاب. فكرة “السلطة المدنية” هي اكذوبة تنتمي إلى الوعي الديسمبري الزائف الذي كرسته قوى لا مصلحة لها في الديمقراطية؛ فالسلطة يجب أن تكون ديمقراطية منتخبة من الشعب.
كيف يُمكن أن نصل إلى هذه السلطة الديمقراطية؟
عبر خطوات؛ أول هذه الخطوات هو وضع قضية الانتخابات في المركز من الحراك السياسي؛ أن تكون قضية الانتخابات هي مدخلنا الأساسي للصراع من أجل استعادة الديمقراطية، و أن تكون هي المحور الأساسي في أي نقاش أو حوار سياسي؛ التوافق الوطني، معالجة مشكلة الجيوش المتعددة، إبعاد الأجهزة العسكرية من السياسة و من الاقتصاد، قضايا الحكم و السلام و غيرها من القضايا؛ عندما تجري مناقشة هذه القضايا في إطار نموذج عام يسلِّم بالانتخابات و ليس الثورة كأساس للشرعية السياسية سيكون الأمر مختلفاً بشكل كامل عما يجري الآن.
و لذلك، و أمام الوضع الحالي فإن الخطوة الأساسية هو الحوار و التوافق في ظل التسليم بالانتخابات كأساس للشرعية. و من ثم العمل على ضمان قيام انتخابات حرة و نزيهة و عادلة ، و يجب أن يكون هذا هو الرهان الأساسي للصراع مع المكون العسكري، بدلاً عن الرهانات الصفرية مثل تفكيك الجيش و الدعم السريع و الأجهزة الأمنية و محاكمة و شنق قادتها و ما شابه. يتطلب ذلك أن تتوحد القوى الوطنية، و تحدد أهدافها بوضوح، انتخابات حرة نزيهة تعطي السلطة السياسية كامل الشرعية للتصرف في القضايا الأخرى بما في ذلك ما يتعلق بالجيش و الأجهزة الأمنية و القوى المسلحة.
في هذا السياق و ضمن هذا النموذج يُمكن أن يجري الحوار حول كل القضايا الأخرى، قضايا الدستور و الحكم و قضايا العدالة و المصالحة و إصلاح مؤسسات الدولة المختلفة. مع الأخذ في الاعتبار أن هُناك قضايا بطبيعتها تتطلب وقتاً لحلها بشكل نهائي. على سبيل المثال قضية توحيد و دمج كل الجيوش قد لا تكتمل في سنة أو اثنين، هذا لا يعني أن نؤجل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، و لكن يعني أن تواصل السلطة المنتخبة العمل في هذا الملف بالتشارك مع الجهات المعنية بذلك؛ كذلك الإصلاحات المطلوبة في الخدمة المدنية مثلاً قد تتطلب وقتاً و جدولاً زمنياً، و هذا لا يعني أن نؤجل الانتخابات و نسلم السلطة لحكومة غير منتخبة طوال هذه المدة، و لكن يُمكن من خلال الحوار و التوافق التوصل إلى برنامج مستمر للإصلاح؛ مثلاً من خلال المفوضيات المستقلة التي تتكون عبر التوافق السياسي و تعمل في تناغم مع السلطة السياسية المنتخبة و يمتد علمها إلى حين اكتمال مهمتها، و كذلك من خلال لجان مستقلة يجري تكوينها عبر التوافق السياسي و تكون مستقلة عن السلطة التنفيذية و تعمل بقانون خاص و تكون مساءلة بموجب هذا القانون أمام البرلمان المنتخب. بهذه الطريقة يُمكن جدولة القضايا التي تأخذ وقتاً أطول دون تعطيل قيام الانتخابات.
بالطبع لابد أن تكون البداية من اللحظة الراهنة، بإنهاء حالة الطوارئ و إطلاق سراح المعتقلين و تهيئة الأجواء للحوار و العمل السياسي.
أما بالنسبة للوضع الحالي أرى أنه من المبكر الحكم عليه بكونه سلطة انقلابية مستبدة، كون إمكانية الحوار ما تزال قائمة، و يمكن الاحتفاظ بشعرة معاوية مع إطار كورنثيا رغم كل شيء كمدخل للحوار، كونه ما يزال ظاهرياً على الأقل هو مصدر الشرعية للوضع القائم حالياً. خطر الاستبداد الحقيقي سيزداد مع تصاعد المواجهات و التصعيد، و مع تزايد حدة الخيارات الصفرية، حينها مع تزايد القمع ستتحول سلطة الأمر الواقع إلى نظام قمعي مستبد لا يملك حتى رفاهية العودة إلى الوراء، و سترتفع التكلفة الأخلاقية للدخول معه في حوار، و سيتأزم الوضع و يضعنا حقيقة أمام الخيارات الصعبة. أنا أرى لا يجب أن نستعجل ذلك.
و ختاماً، هنا نحن نمارس النقد و لكن من أجل طرح رؤية و خيارات بديلة نعتقد أنها هي الخيار الأصوب و لكنها تحتمل الخطأ. هذا حقنا السياسي و واجبنا أيضاً، سنناقش من يناقشنا، و من يحاربنا سنحاربه و ندافع عن حقنا في الكلام. لن نسمح لأي ثورة مهما كانت شعاراتها و تضحياتها عظيمة أن تصادر منا هذا الحق، و لا نقبل أن يخبرنا شخص متي نتكلم و ماذا نقول.