أحاول دائما سرد وجهات نظري عن واقعنا الإجتماعي والسياسي في السودان بعيدا عن أهواء النفس وضيق مساحات التفكير والارتماء في حضن التاريخ المزيف والذي لم نكتبه نحن كسودانيين بل كتب عنا ولنا ليشكل جزء كبير من واقعنا المتردي وللأسف سيشكل مستقبلا لا يقل سوءا عما نحن فيه الآن مالم نصحو من غفلتنا وننتبه لانجرارنا خلف ترهات وخرافات بل وفخاخ نصبت لنا عن قصد لنكون دائما في مؤخرة الشعوب والبلدان.
من بين هذه الفخاخ التي نصبت لنا وترسخت في أذهاننا واستقرت وعلى أساسها ترتبت العديد من المفاهيم بل والمواقف والأحداث هي فخ إدعاء النقاء العرقي ففريق يدعي العروبة الخالصة وفريق يدعي الأفريقانية الخالصة وهذا الأمر حاولت تجاوزه كثيرا لكنني وكلما اتصفح الميديا أجد المجموعات وغرف الكلوب هاوس تضج بما يستند على فكرة هذا الفخ الملعون أجد في نفسي شيئا يدفعني للكتابة عنه، وكالعادة أذكر عزيزي القارئ أن مايكتب هنا مجرد محاولة مني لخلق حالة تثاقف مشتركة نقارب فيها وجهات النظر والوصول أخذا وعطاءا لرؤي موحدة تجمعنا كسودانيين شعبا وأرضا ولا يحسبن أحد أنني أدعي المعرفة دون الآخرين أو أن آرائي حقيقة مطلقة لا يشوبها الخطأ العكس تماما هو الصحيح أنا لم أطرح نفسي كمصلح ليتجاوز البعض لب ماأطرحه للحديث عن خصوصياتي ولا قدمت نفسي نبيا تحفني العصمة من الخطأ والزلل إنما مواطنا سودانيا بسيطا أحلم بواقع مختلف وأستخدم في ذلك لغتي البسيطة ومبضعا أتحسس به موضع الألم في جسد أمتنا السودانية إن جاز التعبير وأحاول الدفع بأن نعترف بوجود الداء أولا وإزاحة الحرج للقبول بوجوده حتى يسهل علينا أخذ الجرعات المناسبة من العلاج.
قبل العام ١٩٨٤ كان العلماء يعتمدون على مصادر معينة لمعرفة أنساب الشعوب وانتماءاتها مثل الآثار المجسمة والمكتوبة والمحكيات والأساطير والدين ولكن بعد ظهور علم الأنساب الجيني Genealogy والذي يعتمد على العلمية المطلقة في تحليل النتائج وتأكيدها وبذلك ظهرت العديد من الحقائق التي تدحض نظرية النقاء العرقي وأصبحت بذلك المجموعات العرقية هي فكرة متخيلة فقط وفي الواقع أن شعوب العالم كله تمازجت وتصاهرت منذ قديم الزمان ولا يكاد بشر يخلو من جينات شعوب تقطن بعيدا جدا عن موطن مولده ولكننا كسودانيين دائما نحاول اجترار ماتجاوزه الناس بفعل العلم والمعرفة وأتحدي أي سوداني أن يقوم بفحص جيناته لمعرفة أصوله فحتما سيجد أن شيئا من أصوله يذهب بعيدا عن جغرافية السودان وماحافظ عليه السودانيون في هذا الأمر هو فقط أسماء القبائل لكن حتى أماكن تواجد هذه القبائل تبدلت كثيرا بفعل الهجرات هنا وهناك وهذه حقائق يجب أن يسلم بها السودانيون.
ومن الطرائف التي قد توجع البعض وتسر البعض أن عالم الكيمياء العضوية الروسي (أناتولي كليو سوف) ذكر أن نسبة الآريين في ألمانيا لا تزيد عن نسبتهم في عمان والروس يتشاركون نفس النمط الجيني مع قريش (والله جد قريش ذاتا) ، لذلك كل الدعوات العنصرية وادعاءات النقاء العرقي والتمييز هدأت في أروبا وأمريكا وغيرها وأصبحت المجتمعات فيها أكثر انفتاحا وسهل جدا أن ترى صاحب البشرة السمراء متزوج من صاحبة بشرة بيضاء والعكس ويعود ذلك لأنهم تحرروا من عبودية الخرافات والأساطير والأكاذيب المنسوجة في التاريخ المزيف.
وفي السودان حدث هذا التمازج منذ وقت مبكر جدا وظاهر هذا الأمر في وجوهنا وشعرنا وكلامنا وموسيقانا ولكننا دائما أسري للفخ الذي نصب لنا والسودان بلد مفتوح لا تغلقه حواجز طبيعية في حدوده مع الدول المجاورة والإنسان بطبيعة سعيه للحصول على حياة أفضل يتنقل هنا وهناك.
فمثلا دارفور نجد فيها مكونات مختلفة تجمعها مشتركات عدة ونسب وتصاهر وتأثر كل مكون بالآخر سواء في اللغة أو ثقافة الطعام والشراب والعادات والتقاليد.
ومن أمثلة هذا التمازج في التاريخ القريب أن زوج سلطان الفور بنته (خيره) لأحد أعراب البادية إسمه أحمد سفيان الهلالي لما علم فيه من رجاحة العقل فأنجبا إبنهما سليمان وسماه الفور (سلومه) وتعني العربي بلغة الفور وحكم من ذرية (سلومه) دارفور ١٧سلطان آخرهم السلطان على دينار رحمه الله.
وقس على ذلك السودان كله
#جدلية العروبة والإسلام:
في اعتقادي أن العروبة الآن لا تتجاوز كونها رابط ثقافي أساسه اللغة العربية ولا علاقة لها بالعرق مثلما الأفريقانية تماما فهي جغرافيا وليست عرق ولي في ذلك كثير من المراجع.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إنما العربية لسان والإسلام لم يأتي للعرب فقط ولذلك لم يقل الله سبحانه وتعالى (ياأيها العرب) بل قال:(ياأيها الناس).
يربط الكثيرون مفهوم العروبة المتخيل كعرق مع الإسلام كدين لذلك برزت في السودان ظاهرة الإلحاد وسط كثير من دعاة الأفريقانية وأصبح من أوجب الواجبات عندما تتحدث عن العودة إلى الجذور والأفريقانيه هي أن تمتلك قميص كنغولي وأن تصبح ملحدا.
# أسئلة مهمه:
نحنا ليه عايزين كل مكون يميز نفسه عن المكونات الأخرى؟
ليه عايزين نعود إلى تراثنا القبلي؟ وماهي الفائدة التي تعود على كل مكون؟ وهل هذه الفائدة تعود على الرقعة المسماة السودان التي نعيش فيها مجتمعين كمواطنين سودانيين؟
أنا طبعا لست مع القطيعة مع التراث بل مع إحيائه وتهذيبه وتطويره وفي ذلك ثراء ثقافي وفوائد جمه لقناعتي الكاملة بأن مافي تراثنا من مشتركات كثيرة جدا ستكون سببا في تمتين وحدتنا ان انتبهنا لها وعرزناها سببها هذا التمازج الذي حدث في جينات الإنسان السوداني.
لكن عندما نطرح الأسئلة السابقة يجب أولا أن نفكر في ربطها بسؤال النهضة للدولة التي تجمعنا كلنا كسودانيين.
كذلك يجب أن نفكر في أن أي مجتمع يغلق نفسه أو يغلق بفعل فاعل إنما يختار الفناء والإنقراض وتتضائل مساهمته في التقدم والتحضر البشري.
أعتقد أن محاولات العودة إلى الجذور يجب ألا تتم بالصورة السطحية التي نراها اليوم بل يتتطلب الأمر أولا فهم طبيعة الماضي وكيف أن أجدادنا عاشوا واقعا مختلفا في تفاصيله وتحدياته.
دعاة الأفريقانية والعروبة في السودان بلا شك مؤمنون بمبدأين في أصل الخلق وهما مبدأ الخلق كما ورد في الأديان ومبدأ الخلق كما ورد في نظرية التطور لداروين فالقرآن مثلا يرجعنا لأب واحد ولأم واحده فكلنا لآدم وآدم من تراب كما ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم اذا أصلنا واحد رغم اختلاف ألواننا ولغاتنا وطبائعنا فلم كل هذه الضجة ونحن مؤمنون بالله وبحكمة خلقه فينا!؟
المبدأ الثاني يتكئ على نظرية داروين في كتابه أصل الأنواع
وداروين يقول أن أصلنا يرجع إلى الشمبانزي وتطورنا الي أن وصلنا مرحلة الإنسان الذي نراه الآن على أية حال لا فرق بيننا طالما أصلنا واحد إن كان جدنا آدم أو جدنا الشمبانزي.
نحن نحتاج إلى العودة إلى ذواتنا الواقعية قبل التفكير في الماضي ذواتنا التي تميزنا كسودانيين في الفضاء الإفريقي والعربي وكأناس في الفضاء البشري عموما حينها سيسهل علينا إيجاد مشروع وطني يجمعنا ويجيب على سؤال كيف نحكم الرقعة الجغرافية المسماة السودان.
نواصل..