تكمن أهمية السودان في معادلـة كونه كيانا وطنيا متعدد الروافد و التنوع الإجتماعي والجغرافي وميزتــه الكبري نظام الحكم اللامركزي وهذه التركيبـة الجغرافية والثقافيـة والسياسيـة تمثل همزة وصل جيوستراتيجية بين إفريقيا والعالم العربي والإسلام والمسيحيـة.
فالسودان بموقعـه الجغرافي في إفريقيا جعله فاعلا إقليميا ودوليا في القرن الافريقي ومدخلا للعرب والمسلمين إلي عمق إفريقيا وبذلك السودان هو نواة إجتماعي له إمتداده وتاريخه في الوطن العربي كذلك ..
السؤال الجوهري والمحوري هنا والذي نرمي الي الحفر التحليلي والمعرفي فيه هو : هل دعاة الإشتراكية والنيوليبرالية الذين شغلوا الشباب ويحاولون طرح أفكارهم ومشروعهم علي الشعب السوداني وهو رافض لهم : هل راجعوا دوائر الإنتماء السودان وموروثـه الإجتماعي العشائري المتحاضن والمتماسك والذي شكل من قبل أهم عناصر الدولـة السناريـة والثورة المهديـة وكان يمثل رأس الرمح في حركات التحرر الوطني التي أنتجت الإستقلال ..
هل راجعوا كيف جعلت الإنقاذ مراجع حكمها خلال الثلاثين عاما هم الشعب ولماذا كانت تقيم للنظام الاهلي وزنا .. ?
هل يمكن أن يتنازل الشعب السوداني عن كل تاريخه المتماسك ويستجيب لدعاة التنابذ والجدل الثقافي الليبرالي السطحيين الذين تجاهلوا حقيقة تركيبته وتشابكه ..?!!
ـ إن الإجابة التلخيصيــة العامـة والحاضرة في ذهن كل من يتابع المشهد السوداني وهياج النيوليبرالية خلال الفترة القصيرة الماضية ( وفورتها السريعــة) وتراجعها وإنحسارها السريع يدرك أن الطابع السوداني المركب والكينونــة الإجتماعيــة المتداخلـة مهما برع البعض في إنتاج خطاب الكراهيــة وزرعــه فإنها تظل عصيـة الإستجابـة لخطاب التنابذ بل أن ضوابطها الاهلية قادرة علي حصر ومحاصرة دعاة هذا التوجه السياسي البغيض كما أن الحديث عن إستجابــة الولاءات العشائرية لخطاب اليسار المغلف بالمدنيـة غير منطقي ويعني بالضرورة صراعا عنيفا بين روافد بنيـة إجتماعية واحدة مع مجموعة وقلـة تختزل كل هذا الموروث في الانضمام للاسرة الدولية تحت دعاوي كثيرة ونظريات عديدة تري الغالبية الرافضة ذلك هو من يشوهها ويهدد وجودها ولذلك شاهد الجميع كل أشكال المقاومة التي ظهرت منذ الزحف الاخضر ( 1 -2 ) وكذلك تظاهرة 26 يناير الماضي وتبعتها إنتفاضة 5 فبراير ولا زال الحبل علي الجرار لن يكون السودان دار الخلافــة الاسلامية ولا رمز لانموذج الدولة العلمانية التي يعمل علي هندستها من الخارج وهي سبب التململ الوطني وشواهد التفوق الوطني بأن يظل السودان هو السودان بتركيبته المحافظة و القابلة لشروط العصر ..
إن الثلاثـة سنوات الإنتقاليــة التي مضت كانت بالنسبــة للشعب بمثابــة فترة فحص لسلوك القوي السياسيــة الحاكمـة الجديدة وطريقـة تعاملها مع الفضاء السوداني العام وظهرت نتيجة الفحص سلبية بأن الذين دانت لهم السلطة لم يتعظوا من فشل جميع الثورات الشيوعيــة في العالم بما فيها أوربا نفسها كما أن نتيجة الفحص أظهرت أنه ما كان أكثر المتشائمين من المحللين يظن أن منظري ذلك النظام المباد أن يكونوا بهذا التسطح الفكري وهم يعيدون إنتاج الفشل بتبني الخطاب والشعارات اليساريـة كسياســة عامــة لحكم السودانيين مهما غلفوها بالمدنيــة والحريات ومعاداة العسكر فإنها واضحـــة ..
إن الروس أنفسهم وزعيمهم لينين مقتنعين في طرحهم بعدم إمكانيــة بناء دولـــة إشتراكية من دون حدوث ثورة عالميــة مؤيدة تؤمن وتقتنع بالاشتراكيــة حيث قال بالنص ليس هناك أي أمل في نصر نهائي للثورة الشيوعيـة الروسيـة إن ظلت بمفردها .. مع ذلك ركبوا راس وجربوا إستخدام نظرية ستالين في التحكم بالحركات الاشتراكية في العالم واستخدموها للدفاع عن الدولــة التي تحولت الي جهاز قمعي وايدويولوجي عزز المنهج الديكتاتوري في حكم شعوب الاتحاد السوفيتي والاتجاهات الاشتراكية في العالم ورغم سقوطــه وإنهيارها بشكل مدوي عام 1991م فإن منظومتـه الفكرية ما تزال قويـة ضمن الأنظمة الاستبداديــة القاهرة لكن الشعوب في العالم متمردة علي هذا الفكر المتطرف الرافض للآخر .. وفي ضوء خلاصـــة الخبرة التاريخيــة للشعب السوداني وتعامله مع الحكم وسلوكــه الاجتماعي الرافض للقهر والتدخل الخارجي في شؤونه الداخلية وفي ظل خصائصه المميزة والمتمثلــة في تفشي ظاهرة سيطرة العشائريــة علي المجتمع والحماسـة والإعتداد بالمنتوج السوداني في ظل كل ما ذكرت وما لم نذكر تثير حركــة بطئ الجناح العسكري المسيطر والمتحكم علي مقاليد الحكم في السودان بعد قرارات قائد الجيش الموسومــة بقرارات 25 إكتوبر والتي إنحاز لها الشعب بقوة وشكل لها حاضنة اجتماعية وسياسية متينة ، تثير أسئلة تتعلق بإمكانية إستمرار السودان علي إنفاذ كل بنود قرارات 25 إكتوبر والمضي في التحضير لإنتخابات مبكرة تتيح للشعب السودان فرصة يوقف بها زحف التيار اليساري الليبرالي وتمدده نحو السيطرة علي عقول الشباب بالمدن رغم أن شباب الاقاليم لازالوا علي خير ويحتفظون بموروث مقدر من إرث السودان القديم المتجدد ..
إن الأسئلــة تمدد والمخاوف تتناسل من ان يؤدي بطئ إنفاذ قرارات 25 إكتوبر لإحياء جدليــة اليسار وطرحــه لبدائل جديدة نحو التوجه بعد أن تهاوت كل تجاربه وإكذوباته عن سعيـه لتوطين التجربـة الديمقراطية وتحقيق الحريـــة وحقوق الانسان ..
إن بواعث الأسئلــة الحرجــة تمضي في إتجاه يكشف عن تحضير اليسار وسعيــه بإستمرار لتغويض كل ما نتج عن ثورات الشعب السوداني التي تجلت في إعتصام القصر الجمهوري الذي أنهي فيه الجيش ( والنخبـة السياسيـة والمدنيــة والحركات المتمردة المتعاونــة معه ) تلك التجربة السياسيـة الاقصائيـة المخيفة والتي وصفها وقتها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بـ ( المرحلـــة الفوضـويــة ) ..
إن الأسئلـة تتناسل حول بطئ التنفيذ وعدم إطلاق يد الحكومـة المكلفـة في أنه قد يتسبب في مزيد من إنهيار الإقتصاد وضعف الايرادات للدولة وقلــة الخدمات وهو ما ينشده اليسار و4 طويلــة المبادة والتوجس يتعاظم بأن تنزلق الأمور أكثر ويصاحبها إنفلات أمني كما حدث في ليبيا التي تحولت بدورها الي حروب أهليــة ..
وبالنظر إلي مصائر التجارب الثوريــة في تونس وليبيا وسوريا واليمن ومآلاتها المرة علينا في السودان أخذ العبرة وعلي الجيش أن يعكف مع القوي الاجتماعيــة والنخبــة السياسية المناصرة لقراراته يعكفوا جميعا علي رؤيـة وطنيــة تجنب بلادنا شبح الانقسامات والمآلات الصعبـة التي مرت بها دولــة كثيرة سيما ان المجتمع الدولي وأمريكا مقتنعين بأهميـة إستقرار السودان وهو المدخل الرئيسي لإستقرار العالم وأن ضمان مصالح العالم في السودان والمنطقــة كلها تكمن في إستقرار الخرطوم وليس إضطرابـــها .. كانت الفترتين الانتقاليتين الاولي والثانية مملؤة بآمال وتطلعات الشعب والشباب السوداني الذي كان فاعلا في كل الحراكات الشعبيـة لكنها وبسبب سوء إدارتها تحولت إلي أكبر شبح للمخاوف يتهدد مستقبل بلادنا مما جعل الشعب يتراجع عن أي موكب ثوري تتم الدعوة له وبات يفكر في نوافذ الهروب من جحيم معاناته اليومية مع المعاش أكثر من الإستقرار داخل وطنــه .. كان الشباب الثائر يطمح في حكم ديمقراطي وتجربــة تعتمد السودان كقاعدة مبدئيــة لإمكانيــة نجاح شعارات ثورة ديسمبر وترسيخها لمؤسسات دولــة ديمقراطية ومدنيــة قويــة مليئة بالتسامح والحرية والسلام والعدالة لكن للأسف كانت ثلاثـة سنوات من الجحيم جعلت الشعب وقواه الشعبيـة الحيـة والمنتجـة ينظرون لكلمــة ( ثورة ومن ينتسب لها ) كنعجة سوداء نشجاز يجب ردها إلي ( القطيـع) وبأي صورة ..
إن الشعب السوداني اليوم بات يصارع كل من يأتيـه بخطاب النيوليبرالية ومقاومــة كل أفكار اليسار مهما وجد الحزب الشيوعي ومنظماتـه التمويل لإحياء مصطلحات ثورة ديسمبر فإن الشعب وحده هو من يقود الثورة المضادة قبل النخبــة السياسية سوا كانت يمنيـة معارضة أو يساريــة مغاضبــة لخطوط الحزب الشيوعي المنفرة ..
إن السودان اليوم ينتظر من يبادر بطرح مشروع وطني مفضل له ويستطيع من خلاله إكمال مشروع إزالـة طغمة اليسار المتطرف .. مشروع يقوده مبادرون وطنيون من أهل السودان ينهوا به حالــة الإحتقان وتطاول السجون للرموز والقادة السياسيين العقلانيين ..
مشروع ينتج حلا سودانيا يستند علي موروث السودانيين في القيم والاخلاق والتسامح وليس مركوزا علي أجندة المجتمع الدولي والاقليمي الذي يمثلــه فولكر بيرتس ..
إذا تم هذا المشروع وفق أدبيات السودانيين وأعرافهم و تضاريس خريطـــة السودان الاجتماعيــة والسياسيــة يمكن أن يكون واحدا من البدائل وآليات التقارب المفضلــة شعبويا وسياسيا المحصنـة من جدليات اليسار وأولوياته ورغباتــه في هندسـة المشهد السوداني علي نحو يخدم قواعد اللعبـــة الأوربيـــة والإقليميـــة ..