زمان أيام الرئيس جعفر محمد نميري – رحمه الله- سمعنا في نشرة الأخبار عن تكوين لجنة برئاسة وزير لحل مشكلة ميناء بورتسودان وتكدس البضائع فيه.. وتظل بعد ذلك نشرة أخبار الثالثة عصراً والتاسعة ليلاً تنشر خبر اللجنة واجتماعاتها في بورتسودان. الأمر تكرر أكثر من مرة في عهد نميري.
ثم جاءت الإنقاذ وتكونت هذه اللجنة عشرات المرات، أذكر إحداها كانت برئاسة السيد يوسف عبد الفتاح، وأخريات برئاسة وزراء وعضويتها أيضاً من وزراء القطاع الاقتصادي..و سافرت اللجان إلى بورتسودان.. ودائماً في آخر المطاف تأتي سعيدة بأنها أزالت “التكدس”..
و أنعم الله على شعب السودان بالطوفان الثوري الذي اكتسح عهد الإنقاذ، وجاءت حكومة الثورة، التي تحضنها (الحرية والتغيير) ، وكلمة “التغيير” هنا مهمة لأنها تحقق معنى الثورة ، أن يكون هناك تغيير حقيقي.. فعهد ما بعد الثورة لا يجب أن يشبه إطلاقاً عهد ما قبل الثورة..
لكن اتضح أن كلمة تغيير هنا أشبه بعبارة “هنا يباع الفول أبولحمة” ..وسافرت لجان إلى بورتسودان، لا يتغير فيها إلا أسم الوزراء وعضويتها، لكنها تذهب للغرض ذاته، بالضوضاء الإعلامية ذاتها.. وبالابتسامة آخر المطاف أنها أفرغت الميناء (كأن الميناء برميل ماء).. وأزالت التكدس.
في هذه الأيام يزور ميناء بورتسودان الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة، للغرض ذاته (حل مشكلة الميناء).. ويلتقي بالوالي المكلف ثم العاملين في الموانيء ثم الهيئات الشعبية، الفعاليات ذاتها التي التقت بها كل اللجان السابقة من عهد نميري إلى اليوم..
وغالباً ستنتهي زيارة دقلو بالابتسامة ذاتها، حل مشكلة الميناء (وتفريغ) التكدس..
صدقوني لو تأخر يوم القيامة ألف سنة قادمة، ففي السنة الأخيرة قبل يوم القيامة سيزور وفد وزاري أو رئاسي رفيع البحر الأحمر لحل مشكلة ميناء بورتسودان، وغالباً على هامش الزيارة سيضخ ثلاثة أربعة تصريحات عن حل مشكلة مياه بورتسودان.
لا يمكن تصور أن السودان ولأكثر من خمسين سنة “شغال” يحل مشكلة ميناء بورتسودان ،الذي لم يكلف الاستعمار البريطاني إلا قراراً وعزماً صادقاً لتأسيسه من الصفر سنة 1904.. ومد خطوط السكك الحديدية إليه..
السودان لا يعاني من مشكلة ميناء، بل من مشكلة غياب التخطيط الاستراتيجي، فعمل الدولة هو تصنيع وإنتاج كبسولات “البندول” المهدئة.. كل الحكومات التي مرت على السودان – عدا فترة الجنرال إبراهيم عبود- كان ينطبق عليها وصف “حكومة أزمة” ، ينحصر عملها في إطفاء الحرائق. والسبب لأن عقلية الحكم في بلادنا تجنح إلى “لايكات” الجمهور السريعة.. وتعتبر أن تجاوز أزمة هو إنجاز، و كأن على الشعب السوداني رفع شعار (الأزمات.. ليست إنجازات)..
هل تصدقوا أن لدينا ساحلاً طوله حوالى 800 كيلومتر كلها صالحة لتشييد موانيء كبيرة.. وأن الأمر لا يكلف الحكومة شيئاً، أكثر من خطة استراتيجية تجعل ساحل البحر الأحمر أحد أهم كنوز السودان اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.. بما يمكن أن نوفره لدول الجوار خاصة التي ليس لها إطلالة بحرية.. ومثل هذه المصالح العابرة للحدود هي ليست مجرد عائدات مالية بل أقوى تأمين للعلاقات السياسية والأمنية.. فحيثما وجدت المصالح المشتركة ارتفعت مناسيب العلاقات مع الدول الأخرى.
يا شعب السودان “المكتول كمد” .. بدون خطة استراتيجية ستظل تحكمكم “الأزمات”..