راشد دياب يكتب.. الجيش للثكنات .. و لجان المقاومة تنحل
رغم ما يمثله من تدخل أجنبي سافر في الشأن السوداني إلا انني لاحظت بعض احتفاء بخبر فرض الخزانة الأمريكية عقوبات على قوات الاحتياطي المركزي السوداني و مظاهر غبطة وسرور بررها بعض المتداخلين في وسائط التواصل الاجتماعي بانهم سيكفون عن الاحتفاء بالتدخل الاجنبي عندما يتوقف قتل الدولة السودانية واجرامها علي شعبها واهدار الدم السوداني و عندما تكون هناك حكومة تحترم شعبها ولا تقتله من اجل المناصب ، وهنا لاحظت انا أن هناك خلط بائن بين مفهومي الدولة و الحكومة عند كثير من الناس .
واحدة من التعريفات التي تبين الفرق بين الدولة والحكومة هي ان الدولة تمثل الإقليم ( أرض وشعب وسيادة ) في حين أن الحكومة هي الكيان الذي يدير هذا الإقليم ، وعليه لا يمكن للحكومة أن توجد من دون دولة، ولا يمكن للدولة أن تعمل من دون حكومة. و على الرغم من أن الحكومة تسيطر على الدولة، فإن الحكومات تتغير وفقا لإرادة الشعب في حين يبقى كيان الدولة كما هو بغض النظر عمن يدير .
من البديهي إذن ان تتنافس الإرادة الشعبية حول محور الحكومة وليس الدولة نفسها ومؤسساتها ، وأن تتيح مؤسسات الدولة للشعب فرص متكافئة للتنافس حول الحكم ، لا أن تحكم هي او تغلب طرف على طرف ..
إلا ان المشهد السوداني بعد سقوط نظام البشير ينبئ بعكس ذلك ، والسبب في ذلك ان القوى السياسية التي استولت على السلطة الانتقالية وشاركت العسكر باسم الشعب ( أحزاب الحرية والتغيير ) فعلت ذلك وبين يديها مشروع واحد فقط للحكم هو كنس الاسلاميين من المشهد السياسي تحت عنوان عريض ومثير هو ( تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الاموال المنهوبة ) ، قحت لم تكن وحدها بالطبع بل كان من ورائها دول و منظمات وأجهزة مخابرات خارجية لها مصلحة في هذا الملف بالتحديد ، و قبل أن يسمع الشعب السوداني بالتغيير الذي حدث فجر الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩ كان قادة الحزب الحاكم آنذاك يقبعون في سجن كوبر والحزب نفسه تم حله في البيان الاول للمجلس العسكري ،
لما كانت الحكومة تمثل في احدى تعريفاتها الإدارة السياسية للبلد فإن هناك عدة أنواع من الحكومات منها الفوضوية ، الشيوعية ، الملكية ، ثيوقراطية ، الملكية الدستورية ، الجمهورية الدستورية ، الديكتاتورية ، والديمقراطية ، و في حالة سودان ما بعد ثورة ديسمبر كانت الحكومة المناسبة هي الحكومة الانتقالية و هي نوع من الحكومات لها طريقة متميزة ومعروفة في إنشاء القانون وإنفاذه ، إلا ان مشروع ( التفكيك ) كان قد انحرف بمهام الحكومة الى ادوار اقرب للمعارضة او التمرد ولأن المعارضة هذه المرة لم تجد حكومة تعارضها ( كونها هي الحكومة نفسها ) فقد اختارت ان تعارض الدولة بدلا من السيطرة عليها وادارتها كما هو متعارف عليه .
بتاريخ ٢٥ اكتوبر كسبت ( الدولة ) معركتها أمام ( حكومة/معارضة ) قحت وذهب رئيس وزرائها مأسوفا عليه من غالب الشعب السوداني ، لان الدولة ببساطة تحتكر القوة بموجب الدستور وتملك ما لا يملكه عبدالله حمدوك ، وعلى طريقة ( المجد للمتاريس )ورثت قوى الثورة و لجان المقاومة من أحزاب الحرية والتغيير اسلوبا شعبيا في التعبير مع بعض اسهامات الحزب الشيوعي التنظيمية و بعض الهامه رفعت لجان المقاومة شعار ( لا تفاوض لا شراكة لا شرعية ) و استمر هذا التعبير في استهداف مؤسسات الدولة و بشكل مباشر في قيادتها العسكرية المتمثلة في ( البرهان وحميدتي ) وصل في غالب تشكلاته الى مواجهة بين الطرفين و للأسف فإنه يخلف في كل مرة ضحايا و خسائر مادية فادحة و يعطل العملية السياسية وفي احيان كثيرة يعطل حياة الناس وأعمالهم .
غير ان هذه المواجهة تضع أصحاب الولاءات السياسية و الوطنية امام محك الاصطفاف ، أما اسناد العسكر او الانحياز للشباب الثائر في الشوارع ، على الرغم من ان هذان الخياران يؤديان في نهاية المطاف الى نتائج صفرية ( tending to zero ) كون الانحياز العاطفي للطرف الرافض للحوار لا يؤدي لأي نتيجة سوى مزيد من التشنج والتعصب و تعطيل العملية السياسية وكون اسناد العسكر يزيد من اطماعهم في السلطة و تشبثهم بها .
فإن هذه المواجهات خلفت سوء وتدهور مريع في أوضاع البلاد الاقتصادية و الاجتماعية والأمنية و أبدى المواطنون شكلا من اشكال الحنين للماضي ، فسره بعض أنصار النظام القديم انه حنين لحكومة البشير و الانقاذ ، ولكنه في الواقع حنين للاوضاع في شكلها الطبيعي ضمن تحديات الدولة الحديثة ، حنين لوجود حكومة تتغير وفقا لإرادة الشعب في حين يبقى كيان الدولة كما هو بغض النظر عمن يدير . وظهرت اصوات ومناشدات و رجاءات من كثيرين لإيقاف هذه المواجهات .
تحقيق المطالب بعودة العسكر للثكنات يتوجب ايقاف استهداف العسكر ودعمهم لحماية ما نتفق عليه من طرق للتشريع و القضاء والادارة ، كما ان المطالبة بحل لجان المقاومة وعدم استهدافهم لمقومات الدولة ومؤسساتها يتوجب تمكينهم وتمكين ارادتهم الشعبية وتوجيه طاقاتهم حول محور ( الحكومة ) وليس ( الدولة ) وتثبيت حقهم في اختيار حكومة تمثلهم وتمثل مصالحهم ، كما يتوجب علينا جميعا أن نفكر ونعمل على إيجاد حكومة انتقالية تعمل على إدارة الدولة ومؤسساتها وتسيطر على الأوضاع ، علينا ان ندعم هذه الاتجاهات . بدلا من الجأر بالشكوى من تردي الاحوال
تخيلوا لو دعمنا تطبيق نموذج للتنافس حول الحكم المحلي لبعض الوحدات الإدارية في الخرطوم ذات النشاط العالي من قبل لجان المقاومة مثل بري و الديم في الخرطوم و شمبات والجريف في بحري و العباسية وامدرمان القديمة في امدرمان ، لو مكنا الفائزين في هذه المناطق من حكم مناطقهم ( شباب الأحزاب يمكنهم الدخول في التنافس ، من استطاع منهم الى ذلك سبيلا ) سنحصل على بيئة نظيفة أولا وخدمات مناسبة في محطات الوقود والغاز و المخابز ودعم للتعليم والصحة و أمن مجتمعي وتأمين عالي للتفلتات والظواهر السالبة ، ونتدرج في هذه التطبيقات حتى نصل لمستوى اختيار رئيس حكومة لجمهورية السودان متوافق عليه وان يكون للجان المقاومة القدر المعلى في ذلك .
خلاصة القول أن أزمتنا السياسية هي ازمة مفاهيم حول ( الدولة ) و ( الحكومة ) وليست أزمة قيم وطنية ، ولو اتفقنا على هذه المفاهيم يمكن أن نتراجع خطوة من اجل التقدم خطوتين .