عزمي عبدالرازق يكتب.. علي كرتي والحركة الإسلامية .. بي وين السكة يا انتَ؟ الحلقة الأولى
عشية إعفائه من منصبه التنفيذي بعد طول مكوث، ذهب الشيخ علي عثمان محمد طه إلى منزله الذي نزعته لجنة التفكيك لاحقاً، الكاميرا التي اختطفت وجه الرجل بينت حُمرة خجل وتقاطيب صغيرة، بيته كاد يتحول إلى صيوان عزاء، بعدها انزوى الرجل في مزرعة جنوب الخرطوم بكل ملحقات العزلة المجيدة، ليتأمل الزمن والرحلة ببصائر، ضمن الزوار الذين لم ينقطعوا عنه علي كرتي، ومن ثم خط رسالة رقيقة إلى الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير محمد الحسن، شهيد السجون الإنتقالية، راجياً منه استلام العهدة، والتي هي عبارة عن منزل في شارع أوماك، شيئاً فشيئاً بدا أن علي عثمان يرتب لمرحلة جديدة بعيد أن أغرق التجربة بتصوراته وأفكاره، لكن السؤال الذي ما انفك حينها، كيف غادر علي عثمان أمانة الحركة الإسلامية والقصر الجمهوري على ذلك النحو المفاجئ، ومن هو رجل الظل القوي الذي تولى إليه ودس في يده كلمة المرور؟
تلك الأجواء رسمت نهاية حقابة وبداية حقبة جديدة، وقد انطلقت فعاليات الحوار الوطني بمشاركة الدكتور الترابي والإمام الصادق المهدي، لتوفر مخارج الطوارئ من مأزق السُلطة، أو ما يعرف بالهبوط الآمن، البشير كان على رأس أهداف التغيير أيضاً، لكنه لم يطمئن للترتيبات اللاحقة، خصوصاً الموقف من المحكمة الجنائية، حينها تفجرت أزمة التعديلات الدستورية، التي زحفت داخل مفاصل الحزب الحاكم بشدة، وكان علي كرتي ضمن خاصة الفاعلين في ذلك الملف، يميل في رأيه إلى الدفع بقيادة بديلة في انتخابات (2020) دون التفريط في سيادة البلد، وقد أدرك باكراً أن سفينة الانقاذ سوف تصطدم بجبل الجليد لا محالة.
تدحرجت ثورة ديسمبر ككرة الثلج وجاءت الأيام الأبريلية الحاسمة، وأُخذت السُلطة ورجالها وزخرفها على حين غـِرّة. اللجنة الأمنية المؤتمنة كانت هى الأداة التي اقتلعت المؤتمر الوطني وتحفظت على رأس النظام في مكان آمن، أول المعتقلين الفريق عبد الرحيم محمد حسين رفيق البشير ومدير جهاز الأمن المكلف لتوه، بعد ذلك توالت الاعتقالات من قبل قوة مكونة من الجيش والدعم السريع، وتم التحفظ على قيادات الصف الأول، تم استدراج الدكتور نافع علي نافع برسالة مشفرة، ليسلم نفسه طوعاً، وقد انقلب حميدتي الذي جاء به البشير خصيصاً في ليلة الخناجر الطويلة تلك، ليبقى في الجوار، لكنه ليس وحده بالطبع من أشعل في الذاكرة ذلك المشهد الروماني الانقلابي” حتى حتى أنت يا بروتس؟” قصر الخرطوم أشبه بملعب المجالدين (الكولوسيوم)، لكن ابن ماركوس جونيوس لم يجاري قائده: إني أحبك لكني أحب روما أكثر، فما كان من القائد العظيم إلا أن قال: إذا فليمت قيصر.
المشهد الأول للبشير وهو يجلس على مقعد داخل المسجد الملحق ببيت الضيافة، وقد انتبه إلى تغيير أطقم الحراسة، تجاهل الأمر، بعدها بنصف ساعة لاحظ وجود ثلاثة ضباط لم يكن على صلة مباشرة بهم، تحلقوا حوله وأخبروه أن اللجنة الأمنية قررت استلام السُلطة، بينهم ضابط كان مكلفاً بنفس المهمة قبل نحو ثلاثة عقود تقريباً لصالح مجموعة عسكرية أخرى! لطالما ردد البشير آية الملك ونزعه، لم ينزعج وقد اكتفى بعبارة واحدة” خير .. أوصيكم بالوطن والدين” ثم حملته بعد ذلك سيارة عبد الرحيم دقلو إلى سجن كوبر خلف زجاج معتم كليل المدينة، وصيحات هستيرية في الخارج، وقد أخبره دقلو أنه لا يوجد مكان أنسب من كوبر لضمان سلامته، ريثما تهدأ العاصفة، لكنه بقى هنالك لثلاث سنوات، بمعية أمين الحركة الزبير أحمد الحسن، وكان التحدي الأبرز من سيدير الحركة الإسلامية بالخارج؟
كل الذين عرضت عليهم أمانة التكليف رفضوا حملها وأشفقوا منها، فحملها علي كرتي، وقبل التحدي وانخرط في أول مهمة وهى تجنب المواجهة مع القوات النظامية والكتلة الثائرة، من خلال السيطرة على المغامرين في المؤتمر الوطني، وفي الأجهزة النظامية كذلك، إلى جانب العمل على توحيد الشتات الإسلامي، ليأخذ بعيد ذلك عنوان التيار العريض، وقد رافقته في خلوته السرية أشواق قديمة، كان يفتل على جديلتها الدكتور الترابي، أدواته الظاهرة تسجيلات صوتية مشفوعة بالصبر على المكاره والعودة للمجتمع كأصل في الدعوة وتربية الفرد ومن ثم تجديد البيعة، يرفع شعار ” كلنا عطاء” ويتجنب طريق “من جماجمنا ترسى زواياه” لكن مسألة خطيرة كانت تؤرقه، كما يبدو، نهض للقيام بها، قبل أن نخوض فيها سألت قيادي بارز في الحركة الإسلامية هل ثمة تنسيق أو تواصل بين كرتي والبرهان، كان رده مفاجئاً، غير متوقع، بالنسبة لي على الاقل.