العبيد أحمد مروح يكتب ما عدا المؤتمر السوداني
لئن كانت هناك من فائدة جناها السودانيون عقب “ثورة ديسمبر المجيدة” فهو أن السنوات الثلاث التي مضت من عمر “الثورة” فضحت المتشدقين بالتحول الديمقراطي من القوى السياسية السودانية وفضحت داعميهم الغربيين، فعلى الرغم من مضي تلك السنوات إلا أن قضية التحول الديمقراطي لم تتقدم نحو صدارة أجندة الفترة الانتقالية، بل بقيت بلا وجيع، إذ لم يتم الشروع في تهيئة الساحة الوطنية لإجراء الانتخابات العامة، ولم تطرح السلطة التي كانت قائمة مسودة القوانين المنظمة للتحول الديمقراطي كقانوني الأحزاب والانتخابات على الرأي العام والقوى السياسية والمجتمعية.
وبدلاً من إعطاء الأولوية لقضية الإصلاح السياسي نفسها، والدعوة لإصلاح المنظمومة الحزبية المعطوبة، والاتفاق على المحرمات في السياسة كالعمالة للأجنبي وخذلان المؤسسة العسكرية، وكذلك على الحقوق والواجبات، وبدلاً من أن تباشر الأحزاب نشاطها وتقيم مؤتمراتها العامة وتنتخب قياداتها وتضع برامجها؛ ركزت القوى التي كانت تحكمنا في بداية الفترة الإنتقالية جهدها لتصفية خصوماتها مع القوى الأخرى وعلى إشاعة خطاب الكراهية والعزل السياسي و الاستحواز على أكبر نصيب من السلطة بوضع اليد، وبقيت القوى الأخرى تتفرج، بينما تمترست بعثة الأمم المتحدة لدعم الإنتقال خلف عبارة “إنتخابات ذات مصداقية” ونصّبت نفسها مَن يحدد مسبقاً ما إذا كانت الإنتخابات التي ستقوم ستكون ذات مصداقية أم لا !!
(2)
يقارب عدد الأحزاب السياسية في السودان اليوم المائة حزب، تشكل أغلبها بعد انقسامات “أميبية” طالت الأحزاب القائمة، التقليدية منها والآيدولوجية، فحزب الأمة مثلاً انقسم إلى ستة أحزاب، والحزب الإتحادي إلى ثمانية والشيوعيون إلى ثلاثة والإسلاميون إلى أربعة، وكذلك أحزاب البعث والناصريين والجمهوريين، وزهد كثيرٌ من المثقفين والنخب في تجارب أحزابهم فقرروا اختيار مقاعد المتفرجين، وبقيت القوى الشبابية حتى الآن في كيانات أسمتها ثورية وكأنها تريد للبلاد أن تظل في حالة ثورة دائمة !!
ولم تقف الانقسامات عند حد الأحزاب السياسية ، بل طالت المجموعات التي حملت السلاح في وجه الدولة، بدعاوى المظلومية والتهميش، إذ توجد الآن نحواً من (40) حركة مسلحة من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، بعضها وقع اتفاقات سلام مع النظام السابق وبعضها مع الحالي وبعضها ما يزال، وهذه كلها من المنتظر أن تتحول إلى أحزاب سياسية بعد عملية إعادة دمج وتسريح مقاتليها، وهكذا فإن عدد الأحزاب مرشح لأن يبلغ ضعف ما هو عليه الآن.
(3)
سيجد المتأمل في التركيبة القيادية لأحزابنا المسماة كبيرة أن الأسرة أو العائلة هي من يبسط سيطرته على تلك التركيبة عدداً ونفوذاً، وأن الصف القيادي من خارج الأسرة هو في حقيقته أقرب إلى “الديكور”، وأن كل من حاول الخروج على هذا النسق، سواء من العائلة نفسها أو من خارجها، وجد نفسه خارج المؤسسة مفصولاً أو متمرداً؛ وما الحال في حزبي الأمة والإتحادي الأصل إلا أوضح الأمثلة على ذلك.
وذات الشيء تجده في أحزابنا الآيدولوجية سواء من اليمين أو من اليسار. والحال هكذا فإن الخطر الحقيقي الذي يتهدد التحول الديمقراطي في السودان هو هذا العجز المدني عن الارتفاع لمستوى التحدي الذي تفرضه المرحلة الجديدة، فنحن أمام أحزاب متناسلة، بلا برامج وبلا هيكلة هرمية قيادية وبلا أنظمة داخلية فاعلة وبلا رؤية واضحة لمشكلات البلاد وكيفية حلها، هي مجرد لافتات حزبية تريد أن تجد نصيباً من كعكعة السلطة بدون تفويض انتخابي !!
والسبب الأبرز لاستمرار الوضع الراهن هو الاضطراب في التفكير والخلل في وضع الأولويات الذي لازم تجربة السنوات التي انقضت من عمر الفترة الانتقالية، ففي مقابل الحديث المستمر عن ضرورة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية دون وضع تصور لذلك ودون إحداث أكبر قدر من الإجماع الوطني حوله، لا تكاد تجد حديثاً جاداً عن إعادة هيكلة “المؤسسة السياسية”، وهي التي تشكل العمود الفقري لأي تحول ديمقراطي، إذ هي المنوط بها وضع الخطط والبرامج لتحويل طبيعة ووسيلة التنافس والصراع في السودان من صناديق الذخيرة إلى صناديق الاقتراع، وفي هذا السياق يلحق التقصير أيضاً بالقوى المسلحة التي وقعت اتفاقيات سلام جوبا ومن المفترض أن تكون قد سجلت نفسها ضمن منظومة العمل الحزبي وبدأت في التحول لقوى سياسية، فلا ديمقراطية بلا أحزاب.
(4)
صحيح أن بعض الأحزاب التي طفت إلى السطح بعد أبريل 2019 ليس لديها من القواعد الجماهيرية سوى حمولة حافلة، وقد رأينا كيف أن ركاب هذه الحافلات انقسموا فأصبحت عضوية أحزابهم تسعها سيارات الصالون، والحال هكذا فقد يقول لي أحد زعماء هذه الأحزاب أنهم ليسوا بحاجة لمؤتمر عام لأنه يلتقي بكل العضوية أسبوعياً في داره؛ لكن ردي على ذلك هو أن المؤسسية تقتضي أن يكون ممثل مسجل الأحزاب حضوراً في تلك الصوالين ليشهد بنفسه مؤتمرات الحزب، وأن تتم مخاطبته بشكل رسمي بما انتهت إليه تلك المؤتمرات الصالونية، فضلاً عن توفر تلك المعلومات في الموقع الإلكتروني لمسجل الأحزاب وفي الصفحات الرسمية للأحزاب نفسها، وهذا ما لم نعثر عليه رغم بحثنا !!
إن المحصلة التي بين يدينا الآن هي أن جميع القوى السياسية السودانية، ما عدا المؤتمر السوداني، لم تبدأ نشاطاً على مستوى القواعد تمهيداً لمؤتمراتها العامة، وقد كان من المفترض أن نكون اليوم في عام الانتخابات وفق ما جاء في الوثيقة الدستورية نسخة 2019، وحتى هذا الحزب الذي جدد شبابه وانتقل من مرحلة عبد المجيد إمام إلى مرحلة إبراهيم الشيخ وعمر الدقير، جمّد خطوات مؤتمره العام الذي كان مقرراً قبل أكثر من سنة عندما تيقن ألا أحد من شركائه يرغب في إقامة انتخابات عامة والبحث عن تفويض شعبي، أما الأحزاب القديمة فبعضها لم يعقد مؤتمره العام لأكثر من نصف قرن كالحزب الإتحادي الأصل وبعضها لأكثر من عقد كحزب الأمة القومي، والحال أن البعض يعول على هذين الحزبين تحديداً لإسناد عملية التحول الديمقراطي، مع إن جميع القوى السياسية مسموح لها أن تمارس نشاطها وتعقد مؤتمراتها، ما عدا المؤتمر الوطني!!
وبرغم هذا الوضع القاتم لمستقبل التحول الديمقراطي تجد أن بعثة الأمم المتحدة لدعم الإنتقال تقف متفرجة، وتجد أن مجموعة الدول الغربية، عبر سفاراتها ومبعوثيها، وبدلاً من حض مريديها على الشروع في عملية التحول، تمارس دور النقابات وتكتفي بالتحريض على السلطة القائمة باعتبارها سلطة عسكرية، في حين تغض الطرف عن اخفاقات السلطة المدنية التي كانت تحكم لعامين، وتنادي اليوم بإعادة تنصيبها دون تفويض انتخابي، ولا تأتي على سيرة عجز المدنيين أن يكونوا ديمقراطيين وأن تكون قياداتهم مفوّضة من مؤسساتها الحزبية !!