لا شك في ان شارع النيل بالخرطوم ، الذي يمتد على طول بضعة كيلومترات بمحاذاة الضفة اليُسرى للنيل الازرق، ابتداء من تعامده مع شارع ” الطيب صالح ” او امتداد شارع ” أوماك ” شرقا ، وانتهاء بجسر ام درمان المطل على مقرن النيلين الازرق والابيض غرباً ، يعتبر من أجمل الشوارع في العالم بدون مبالغة. وقد زعموا ان الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين ، كان يعتقد بالفعل ، انه اجمل شارع في العالم مطلقا ، ولذلك كان يحرص في كل زيارة له الى الخرطوم ، على السير مشيا على الاقدام تحت ظلال اشجاره الفيحاء ، التي تداعب اغصانها نسائم النيّل البليلة.
وشبيه شارع النيل بين شوارع عواصم الدنيا في الطول والخضرة المدهامة والظلال الفينانة والنسائم العليلة المنعشة ، شارع الشانزليزيه الشهير بباريس مدينة الانوار وعاصمة الجمهورية الفرنسية ، سوى أن هنالك فارقا جوهرياً بين هذين الشارعين هو الذي حدا بي الى تسطير هذه الكلمات.
يعود تشييد القطاع الغربي من شارع النيل بالخرطوم المحاذي للقصر الرئاسي وعدد من الوزارات والمرافق الحكومية الكبرى بالدولة ، الى اوائل عهد الادارة الاستعمارية البريطانية في خواتيم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلاديين ، حيث عمدت تلك الادارة الى بناء رصيف سميك ومتين من الحجارة لكي يصد مياه الفيضان في ابان ارتفاع منسوب مياه النيل الازرق بين شهري يونيو وسبتمبر من كل عام ، وتشييد ذلك الشارع الذي نحن بصدده ، كما غرست على جانبه المحاذي للنيل ، صفّاً من أشجار المهوقني واللبخ الظليلة والمعمّرة ، مما جعله منعشا وظليلا على الدوام منذ ما يربو على القرن من الزمان. وقد فعلت ادارة الحكم الثنائي الاستعمارية نفس الشي وان كان بدرجة واتقان أقل مع بعض الشوارع الرئيسية الاخرى بالعاصمة الخرطوم ، مثل شارع الجامعة على سبيل المثال.
ولا يخفى على كل عاقل ، أن التشجير والظلال ، تصنعان الفارق بكل تاكيد ، خصوصاً في مدينة قاسية المناخ ، وشديدة الحرارة ، وتحيط بها الصحراء احاطة سوار بالمعصم كالخرطوم. ولكن لسبب او اسباب ما ، نفر كل من السكان والسلطات الوطنية الحاكمة بها على مر العقود ، عن الحرص على التشجير بصورة محيّرة ، رغم خصوبة التربة وتوفر المياه بكميات كبيرة. وقد جاء هذا التصالح المجاني مع الجفاف والغبرة والقبح في الخرطوم الكبرى تجسيداً صادقاً لشطر بيت المتنبي الشهير: عجز القادرين عن التمام !.
أما جادة الشانزليزيه بباريس التي شبهناها بشارع النيل فيما مضى ، وخصوصا بجامع وجود الاشجار المغروسة والظلال في كليهما ، فتخبرنا المصادر ان اسمه مشتق من الأليزيوم Elysium اي الجنة في تصور الميثولوجيا الاغريقية ، فكأن معنى الشانزليزيه هو حرفياً ” حقول الجنة “.
وتشير المصادر الى ان موضع شارع الشانزليزيه هذا قد كان مجرد مستنقعات لثقة التربة ووحلة في السابق ، ولكن شخصاً عبقرياً يسمى ” اندريه لونوتر ، كان يعمل مهندساً زراعياً ومنسقاً لحدائق قصر لويس الرابع عشر ملك فرنسا 1638 – 1715م ، قد عمد اليها فاستصلح ارضها ومهدها ، فشيد عليها هذا الشارع الشهير ، وغرس على حافتيه صفوفا منسقة من اشجار الكستناء والبلوط والسنديان ، وزينه في منتصفه بحديقة كبيرة جمع فيها قدرا كبيرا ومتنوعا من صنوف الاشجار والورود والازهار والرياحين ونوافير المياه والتماثيل البديعة الصنع.
والشاهد هو ان اشجار شارع الشانزليزيه ، قد ظلت منذ غرس اول مجموعة منها قبل ما يزيد عن الثلاثة قرون ، تتمتع بميزة الرعاية والعناية والتجديد والإحلال بصورة مستمرة ومستدامة بلا انقطاع ، حتى ليكاد يصدق عليها قوله تعالى -ولله ولكتابه المثل الاعلى -” أكلها دائمٌ وظلها ” الآية.
هذا ، ويقال ان لكل شجرة من اشجار الشانزليزيه صغيرةً كانت ام كبيرة ، ملفاً او ” دوسيه ” خاصاً بها وببيانات تفصيلية عن نوعها ، وتاريخ غرسها ، ومسيرة نموها ، وحالتها الصحية ، وهلم جرا ، بما في ذلك التاريخ المتوقع لشيخوختها وجفافها تماماً في الظروف الطبيعية.
فأين أشجار شارع النيل من ذلك ؟. أقول هذا وقد ظللت الاحظ في حسرة وإشفاق ، ان الموت والجفاف الطبيعي وبفعل الفاعلين ايضا ، قد استحرّ بصورة ملحوظة في اشجار هذا الشارع مع الاسف الشديد خلال الاعوام الماضية ، حتى صارت عدة مواضع منه قاعاً صفصفا او كادت ، وخصوصا في القطاع المحاذي لوزارات الري والصحة وجامعة الخرطوم ، في ظل عدم وجود شتلات من نفس الاشجار لكي تحل محلها وتسد ثغرتها ، عندما ينقضي عمرها الافتراضي ، مثلما هو الحال في شارع الشانزليزيه ، الذي لا تنفك تجد فيه على الدوام ، شتلات صغيرة ، مغروسة على بعد مسافات محسوبة بدقة من الاشجار الكبيرة.
وعندي ان هذه المقارنة ، تكشف في الختام ، عن عوار وقصور بين في فكرنا الاستراتيجي عموما كسودانيين ، وذلك من خلال مرفق واحد ، ويتعلق بمنشط واحد فقط هو الاحتفاظ بشارع النيل بالخرطوم مشجّراً ومخضرّاً بصورة مستدامة ، حتى تستمتع به الاجيال القادمة من سكان العاصمة وزوارها من داخل البلاد وخارجها. على ان الوضع الماثل حالياً ، يحمل المرء على التشاؤم بالفعل بأن اشجار شارع النيل سوف تختفي جميعها ربما بعد سنوات قليلة والى غير رجعة ، اذا لم يتم وضع خطة اسعافية عاجلة من اجل تلافي خطورة هذا الوضع ، يتبعها على الفور ، وضع استراتيجية محكمة للمحافظة على تشجير شارع النيل بصورة فعالة ومستدامة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.