عريب الرنتاوي يكتب.. قمة بايدن – محمد بن سلمان إن تمت.. حسابات الربح والخسارة
ليس خافياً على أحد، أن العلاقات الأميركية – السعودية ليست في أفضل حالاتها
الطريق بين واشنطن والرياض، يبدو مزدحماً، وفي كلا الاتجاهين… دبلوماسيون وأمنيون ومسؤولون كبار، يتنقلون بين البلدين محمّلين بالملفات الأكثر تعقيداً في العلاقات الأميركية – السعودية، وقد ارتفعت وتيرة هذه التحركات، بعد الأنباء عن لقاء أول بين بايدن – الرئيس وولي العهد السعودي الشهر المقبل، في “مكان ما” في الشرق الأوسط، وفي أول جولة للرئيس الأميركي في المنطقة، مذ توليه مقاليد البيت الأبيض.
في أواسط الشهر الفائت، كان مدير المخابرات المركزية في زيارة سرية للمملكة، اجتمع بولي عهدها وحاكمها القوي، ووصفت نتائجها بالإيجابية وفائقة الأهمية،… بعدها بأسابيع، فُرش البساط الأحمر لشقيق ولي العهد ونائبه في وزارة الدفاع، حيث التقى بكل من أمكنه الالتقاء بهم من كبار أركان الإدارة، والبنتاغون والسي آي إيه والخارجية و”الأمن القومي”…وطوال الأشهر الخمسة الفائتة، يُقال أن منسق مجلس الأمن القومي الأميركي للشرق الأوسط بريت ماكغورك ومبعوث وزارة الخارجية للطاقة عاموس هوشتاين قاما بخمس زيارات للرياض، آخرها منذ أيام، أما الحديث دائماً، فلا يتخطى ثلاثية النفط والصين وروسيا، مع مرور خجول على ملف حقوق الانسان.
ليس خافياً على أحد، أن العلاقات الأميركية – السعودية ليست في أفضل حالاتها منذ مجيء إدارة بايدن للحكم قبل ستة عشر شهراً… بايدن سبق وأن حمل على الرياض وولي عهدها على خلفية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وهو وصف المملكة بـ”المنبوذة” والمتجرّدة من “القيم الاجتماعية” وتعهد “تدفيعها الثمن” غير مرة.
على أن الخلافات بين الجانبين، ستتناسل بعد ذلك… الرياض ستمضي في تطوير تعاونها العسكري مع بكين، وصولاً لاستقبال منشأة صينية لإنتاج الصواريخ الباليستية وشراء المزيد منها، ولا توفر مناسبة دون التعبير عن التزامها بالاتفاق مع موسكو في إطار “أوبك +”، برغم عطش السوق العالمية للنفط إثر أزمة أوكرانيا وبداية التعافي من ذيول كورونا وتداعياتها… في حين تتابع المملكة بكثير من القلق، “معايير واشنطن المزدوجة”، وهي ترى قيادتها النشطة للحرب ضد روسيا في أوكرانيا، مقابل سحبها لبطاريات صواريخ “الباتريوت” من السعودية، واكتفائها بإدانة هجمات الحوثي على “درة عرشها”: أرامكو، ورفض واشنطن إعادة الحوثيين إلى قوائمها السوداء للمنظمات الإرهابية.
من نافل القول، أن العلاقات بين البلدين، لم تصل حد القطيعة، وليس من مصلحة طرفيها أن تتردى علاقاتهما إلى حضيض من هذا النوع، فواشنطن ما زالت تتمتع بمكانة محورية في حسابات الأمن والطاقة و”الجيوبوليتكس” في الرياض، في حين أن أعين واشنطن ما زالت متسمّرة على النفط السعودي، إن لم يكن لاستهلاك سوقها المحلي، فلغايات التحكم بديناميات السوق العالمية، وبهدف حرمان موسكو من ورقتي الغاز والنفط الاستراتيجيتين، إلى جانب ملفات هامة أخرى، ليس أقلها أهمية الملف الإيراني بتشعباته المعروفة.
بايدن الذي صعد إلى قمة شجرة حين أبدى رفضاً قاطعاً لمصافحة محمد بن سلمان ومحادثته، نقل مهمة إدامة العلاقات بين البلدين واستعادة زخمها، إلى كبار المسؤولين في إدارته، لكن أمراً كهذا لم يكن كافياً بالنسبة لولي العهد السعودي، الذي تقول الأنباء بأنه يتحضر لوراثة عرش المملكة قريباً، وربما لخمسين سنة قادمة… فالرجل يريد لبايدن أن يخاطبه مباشره، وأن يخاطبه بما يليق به كزعيم لدولة وازنة في الإقليم، بصرف النظر عن الموقف من الرجل وتصرفاته، أو الدولة وسياساتها.
زيارة الرياض إن تمت
محكومة بحاجتها لخفض أسعار النفط والمشتقات في السوق المحلية عشية الانتخابات النصفية “الحرجة” للكونغرس، ومصلحتها في توفير بدائل لحلفائها عن الغاز والنفط الروسيين، تسابق إدارة بايدن الزمن، وتزداد وتيرة هذا السباق تسارعاً، مع تراجع فرص التوصل إلى اتفاق مع إيران في فيينا، وهي فرص وصفها روبرت مالي بأنها “ضعيفة للغاية في أحسن الأحوال”…واشنطن لا تمتلك ترف “التلهي” بقضية خاشقجي أو الأمير نايف وملفات حقوق الانسان، والرئيس بايدن سيجد نفسه على ما يبدو، مرغماً على الهبوط عن الشجرة واتخاذ القرار الصعب بلقاء محمد بن سلمان… المسألة كما يقول مراقبون، ليست فيما إذا كان لقاء كهذا سيعقد أم لا، المسألة في توقيته واختيار مكانه.
في المقابل تبدو المملكة في وضع أفضل مما كانت عليه قبل عام أو عامين… اقتصادياً، ملأ ارتفاع أسعار النفط، خزائنها بفوائض لم تعرفها منذ أزيد من عقد من الزمان، وناتجها المحلي الإجمالي المقدّر للسنة الحالية، قد يتجاوز التريليون دولار لأول مرة… سياسياً، تتمتع المملكة بعلاقات وطيدة مع كل روسيا والصين وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، وأنجزت مصالحة خليجية، وعلاقاتها مع تركيا تشهد انطلاقة جديدة بعد “الزيارة الاعتذارية” التي قام بها رجب طيب إردوغان للمملكة، وحوارها حتى مع “جارتها اللدودة” يشهد تقدماً، وإن كان غير كافً حتى الآن، كما قال وزير خارجيتها فيصل بن فرحان…. داخلياً، يفاخر محمد بن سلمان بأنه أنجز “ثورة ثقافية” موصوفة، ونقل المملكة من غياهب الوهابية إلى فضاء “الترفيه” و”الانفتاح”، ونساء المملكة اللائي كنّ ممنوعات من قيادة السيارات، بتن يقدن الطائرات العملاقة اليوم، كل ذلك في غياب أي معارضة جدية، أو تهديد “ذي مغزى”، بل ويمكن القول، وسط تأييد واسع في أوساط الأجيال الشابة، يحرص ولي العهد على استعراضه أمام زائريه، وآخرهم وفد الكونغرس ومراكز أبحاث أميركية الأسبوع الفائت.
في مثل هذه المناخات، تتكثف الاتصالات لاختيار الزمان الأنسب لعقد أول اللقاء المنتظر، والأهم اختيار مكانه، فالأمر هنا ينطوي على دلالات سياسية ومعنوية فائقة الأهمية.
من حيث الزمان، يبدو الجانبان في عجلة من أمرها، بايدن محكوماً بمجريات الحرب في أوكرانيا وسوق الطاقة، ومحمد بن سلمان، باقتراب لحظة انتقال العرش والحاجة لمظلة (حتى لا نقول شرعية) دولية لهذا الانتقال، تجعله أكثر سلاسة ودلالة… أما المكان فتدور بشأنه تكهنات عديدة.
في البدء قيل إن إسرائيل ستحتض اللقاء الأول بين الرجلين، في إطار قمة إقليمية، تجمع بادين ببينت وعدد من القادة العرب، في استعادة أكثر أهمية للقاء النقب السداسي… لكن يبدو أن ثمة صعوبات جمّة، تحول دون تحقيق “الحلم الإسرائيلي”، في الوقت الحاضر على الأقل، فلا محمد بن سلمان بهذا الوارد حالياً، ولا السيسي سيكون مرتاحاً لخطة من هذا النوع، أما الملك عبد الله الثاني، فلديه من المتاعب مع إسرائيل وفي الداخل، ما يجعل أمراً كهذا، آخر ما يحتاج إليه.
الخيار الثاني، كان شرم الشيخ المصرية، على البحر الأحمر، الذي اصطدم بدوره بعقبتين اثنتين، الأولى: تردد واشنطن في محض دعمها للسيسي، وهي التي يماطل رئيسها منذ وصوله للبيت الأبيض في الاستجابة لطلب القاهرة ترتيب قمة ثنائية الرجلين… والثانية، تتعلق بما إذا كان يتعين دعوة بينت للقاء، مع كل ما قد يستثيره ذلك من مشكلات تتعلق بعدد وهوية المشاركين من الجانب العربي.
الخيار الثالث، المملكة، وهو خيار مرغوب بشدة في السعودية، ولا تمانع عن الاستجابة له دول خليجية وعربية، وحتى إسلامية، في حين سيكون بالإمكان تفادي “الحرج” الأميركي بعدم دعوة بينت الذي لا تقيم حكومته علاقات تطبيع رسمية مع السعودية، بخلاف الحال مع مصر.
حتى كتابة هذه السطور، يبدو الخيار الثالث الأكثر ترجيحاً، لكن بحثاً في العمق ما زال جارياً بين الجانبين، ويمكن النظر إلى “الوساطة” الأميركية بين إسرائيل والسعودية حول جزيرتي تيران وصنافير، بوصفه محاولة “ربع الساعة الأخير” لمكافأة إسرائيل وتعويضها عن رغبتها غير المستجابة لاستضافة القمة الإقليمية، و”تدفيع” السعودية جزء من “المقابل” الذي يتعين عليها دفعه لواشنطن، ولكن لإسرائيل هذه المرة، علماً بأن أغلب الترجيحات لا تعتبر الوصول إلى اتفاق سعودي – إسرائيلي حول الجزيرتين، شرطاً لإتمام زيارة بايدن للمملكة.
إن حصل لقاء بايدن – محمد بن سلمان في المملكة، بوجود الملك أو غيابه، سيكون جو بايدن قد قدّم الاعتذار للمملكة مرتين: الأولى، في العام 2014 عندما كان نائباً للرئيس عن تصريحات اتهم فيها الرياض بدعم الإرهاب، والثانية، بعدما صار رئيساً عن تصريحات وصف فيها المملكة بـ “المنبوذة” و”المجردة من القيم”.
إن تمت الزيارة، فستكون المملكة قد سجلت فوزاً دبلوماسياً كبيراً، في علاقاتها الدولية، لكن التحدي الكبير الذي يتطلع مراقبون لمعرفة كيفية تعامل الرياض معه، إنما يتجلى في انعكاسات القمة المحتملة على علاقاتها بكل من الصين وروسيا وحالة سوق النفط والطاقة ومستقبل “أوبك +”.
واشنطن ستظل تعمل حتى الدقيقة الأخيرة، لتعظيم الثمن الذي ستحصل عليه من المملكة، على تلك المسارات مجتمعةً، لكن محللين يرون أن السعودية لديها من الأوراق ما يمكنها من تقليصه إلى أبعد حد، وثمة في مراكز صنع القرار السعودي، من يراهن على عودة الجمهوريين، أو “الترامبيين” إلى سدة الأغلبية في الكونغرس قبل نهاية العام، و”المكتب البيضاوي” بعد عامين أو أزيد قليلاً… وإلى أن يتصاعد الدخان الأبيض من مداخن الاتصالات المكثفة والمشاورات الحثيثة خلف الأبواب المغلقة، فإن تقديراتنا ستبقى في دائرة التكهنات.