اسفير نيوز __ وكالات
لايزال الغموض يحيط بالعملية العسكرية التي هدد بتنفيذها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان في شمالي سوريا.
وفي الوقت الذي أكد فيه الأخير، الأحد، أن جيش بلاده سيشنها “ذات ليلة”، سادت في مقابل ذلك جملة من المواقف الدولية والإقليمية والمحلية، في مشهدٍ بدا وكأن “الجميع دخل على الخط”.
وتريد تركيا، من خلال العملية العسكرية المحتملة، استكمال خطواتها لإنشاء “مناطق آمنة” في عمق 30 كيلومترا على طول حدودها الجنوبية مع سوريا و”حماية أمنها القومي”، في خطة ترى الولايات المتحدة في آلية تنفيذها “تهديدا لاستقرار المنطقة”، وكذلك الأمر بالنسبة للقوات الكردية التي تدعمها في المنطقة، بينما “تناور” روسيا بالحديث المتعلق بشأنها.
أما إيران فقد صرح المتحدث باسم خارجيتها، سعيد خطيب زادة، الأحد، أن “طهران تعارض أي نوع من الإجراءات العسكرية، واستخدام القوة في أراضي الدول الأخرى بهدف فض النزاعات”، معتبرا أن أي هجوم “سيؤدي إلى مزيد من التعقيد والتصعيد”.
لكنه أعرب في ذات الوقت عن تقدير بلاده لـ”الهواجس الأمنية لدى تركيا”، مضيفا أن “السبيل الوحيد لحلها يكمن في الحوار والالتزام بالاتفاقات الثنائية مع دول الجوار، والتوافقات الحاصلة خلال مفاوضات أستانة”.
“تلويح ومخاوف”
وعندما لوّح إردوغان بالعملية، قبل أسبوع، ذهبت الكثير من تحليلات المراقبين إلى أنها ستتم بالفعل في “وقت قريب”، وهو الأمر الذي ما تزال الصحف ووسائل الإعلام المقربة من الحكومة تؤكد عليه حتى الآن.
ومنذ ذلك الحين بقيت أصداء شن العملية حاضرة داخل الأوساط التركية، وأيضا في مناطق الشمال السوري، سواء التي تدعمها أنقرة والخاضعة لسيطرة تحالف “الجيش الوطني السوري” أو تلك التي سيستهدفها الجيش التركي، والخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وبينما تحدثت تقارير إخبارية محلية عن “استعدادات بدأها تحالف الجيش الوطني” صرّح مسؤولون في “قسد” أنهم يأخذون التهديدات على “محمل الجد”.
واعتبر الناطق باسم “وحدات حماية الشعب” (العماد العسكري لقسد)، نوري محمود، الاثنين، أن تركيا “على ما يبدو أنها تلقت الضوء الأخضر بخصوص الهجمات في بعض الأماكن”.
وقال في تصريحات صحفية لوكالة “ANHA” الاثنين: “تركيا مرشّحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، كما أنّها عضوة في الناتو. وهي تريد استغلال هذا الأمر والاستفادة منه”.
ماذا يجري على الأرض؟
تشير معظم التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام التركية المقربة من الحكومة إلى أن “العملية إن تمت، ستستهدف بشكل أساسي مناطق منبج وتل رفعت وعين العرب (كوباني)”.
وهذه المناطق محسوبة على مناطق سيطرة “قسد”، وتجوبها منذ سنوات، قوات أميركية وقوات من الشرطة العسكرية الروسية.
وبشكل مفاجئ اتجهت القوات الروسية، قبل يومين، إلى تسيير دوريات جوية على طول الحدود الشمالية لسوريا، فيما تحدثت وسائل إعلام روسية عن “تعزيزات وصلت إلى قاعدة القامشلي”، واصفة الأمر على أنه “رسائل لأنقرة”.
ولم تعرف أسباب هذه التحركات الروسية حتى الآن، لاسيما أنها تبعت تهديدات إردوغان، وتزامنت مع الحديث الدائر بشأن “توجه موسكو لتقليص قواتها في سوريا”.
كما أنها تزامنت مع تصاعد حدة الاشتباكات بين تحالف “الجيش الوطني” والجيش التركي من جهة و”قسد” من جهة أخرى، وخاصة في محيط منطقة عمليات “نبع السلام” في شمال وشرقي البلاد.
“القصة بعد 2019”
في أواخر عام 2019 شنت تركيا عملية عسكرية حملت اسم “نبع السلام” في مناطق شمال وشرق سوريا، لتكون الأولى من نوعها في تلك المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”.
وفي ذلك الوقت سيطر الجيش التركي، وتحالف “الجيش الوطني السوري” الذي تدعمه أنقرة، على مساحة واسعة على طول الشريط الحدودي، بدءا من تل أبيض بريف محافظة الرقة، ووصولا إلى مدينة رأس العين في ريف محافظة الحسكة، وبعمق يقدر بـ30 كيلومترا، حتى محاذاة الطريق الدولي المعروف باسم “M4”.
وبينما كادت تركيا أن تتوسع أكثر، سواء باتجاه الشرق أو الغرب نحو مدينة “عين العرب” (كوباني) أعلنت تعليقها “نبع السلام”، بعد “محادثات هدنة” أجرتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
ووصل مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى العاصمة أنقرة آنذاك، وأعلن عقب اجتماع مع المسؤولين الأتراك التوصل إلى “اتفاق وقف إطلاق نار”، وهو ما رد عليه وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو بالقول إنه “تعليق” و”ليس وقفا لإطلاق النار”.
ودار الحديث عن الهدنة التي تحددت بـ120 ساعة على أنها ستحقق هدفين رئيسيين، هما سيطرة تركيا على شريط من الأراضي السورية بعمق يتجاوز 30 كيلومترا، وطرد “وحدات حماية الشعب” (العماد العسكري لقسد) من المناطق الحدودية.
أين كانت روسيا؟
أيام قليلة فصلت عن الإعلان التركي الأميركي والهدنة المحددة بالساعات، حتى أعلن الرئيسان التركي والروسي رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين عن اتفاق من مدينة سوتشي الواقعة على البحر الأسود.
ووصف إردوغان ذلك الاتفاق بـ”التاريخي”، ونص على احتفاظ تركيا بالسيطرة على منطقة بعمق 32 كيلومترا في سوريا، استولت عليها خلال عملية “نبع السلام”.
وجاء فيه أن “الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري سيعملان على تسهيل إزالة المقاتلين الأكراد مع أسلحتهم، من منطقة بعمق 30 كيلومترا على طول الحدود التركية السورية”.
وبالفعل دخلت عناصر من الشرطة العسكرية الروسية إلى مناطق سيطرة “الوحدات” على الحدود مع تركيا، وخاصة مدينة عين العرب (كوباني)، وانتشر إلى جانبهم أيضا عناصر من “حرس الحدود” التابع لقوات النظام السوري.
وبعد ذلك شرعت القوات التركية والروسية بتسيير دوريات مشتركة على طول المناطق الحدودية، بينما قال مسؤولون أكراد لوسائل إعلام أجنبية إنهم “امتثلوا للاتفاق”.
أما في أنقرة فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية أنه “لا حاجة” لاستئناف العملية العسكرية ضدّ المقاتلين الأكراد في شمال شرق سوريا بعد انتهاء الهدنة، مشيرة إلى أنّ الولايات المتّحدة أبلغتها بأنّ انسحاب القوات الكردية من المناطق الحدودية قد “أنجز”، مضيفة: “في هذه المرحلة، ليست هناك حاجة لتنفيذ عملية جديدة”.
“بين تهديدين”
ومنذ أواخر عام 2019 أجرت القوات الروسية والتركية دوريات مشتركة عدة على طول الحدود الشمالية لسوريا، لكن التفاصيل التي نص عليها الاتفاق المذكور سابقا تغيرت بجزئيات عدة.
وخلال الأشهر الماضية لم تنقطع الاشتباكات وعمليات القصف بين مناطق “نبع السلام” وأخرى تخضع لسيطرة “وحدات حماية الشعب”.
وتوسّعت دائرة التصعيد مؤخرا، إلى الغرب في محيط مناطق “درع الفرات”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يهدد فيها إردوغان بعملية عسكرية على طول حدوده.
ففي نوفمبر 2021، كان قد فرض ذات الظروف التي تشهدها المنطقة حاليا، مهددا بعمل عسكري ضد “الوحدات”، وأن “هجمات الأخيرة بلغت حدا لا يحتمل”.
ورغم تشابه التصريحات بين التهديد السابق والحالي، إلا أن الظروف السائدة تغيّرت.
ويأتي التهديد التركي الحالي في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى أوكرانيا وتداعيات الغزو الذي بدأته روسيا ضدها، منذ الرابع والعشرين من فبراير الحالي.
كما أنه يتزامن مع معارضة أنقرة لانضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، والاشتراطات التي تضعها من أجل إتمام هذه الخطوة.
وتتلخص الاشتراطات برفع الحظر المفروض على صناعة الدفاع إلى تركيا، إضافة إلى تقديم الدولتين ضمانات بوقف دعم المنظمات التي تعتبرها تركيا “إرهابية”.
عدا عن ذلك. جاءت التهديدات بعد كشف أنقرة عن مشروع يهدف لإعادة مليون لاجئ سوري إلى “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا، كرد فعل على الضغوط التي تتعرض لها الحكومة من أحزاب المعارضة.
ما المتوقع الآن؟
يرى الباحث السياسي المختص بالشأن التركي، محمود علوش أن “هناك تريث تركي على ما يبدو في إطلاق العملية العسكرية”.
وذلك ما يتعلق “بهدف ترك المجال مفتوحا أمام إمكانية التوصل إلى تفاهمات مع الفاعلين الرئيسيين في هذه المسألة، وهما الولايات المتحدة وروسيا”.
ويقول علوش لموقع “الحرة” إن “الحسابات التركية معقدة بفعل تشابكها مع مجموعة من المصالح المتضاربة مع روسيا والولايات المتحدة”، وإنه “لا تزال العقبة الأكبر التي تعترض جهود تركيا تتمثل بشكل رئيسي بتعقيدات العلاقة مع موسكو وواشنطن”.
“من غير الواضح في الوقت الحالي ما إذا كانت أنقرة تنسق خطواتها مع موسكو بشأن العملية المحتملة، لكنّ عدم التوافق معها يزيد المخاطر على تركيا بشكل أكبر”.
ويتابع الباحث: “تحاول موسكو الموازنة ما بين تلبية احتياجات أنقرة الأمنية وبين منعها من السيطرة على مزيد من المناطق”، موضحا: “بالنسبة لبوتين، فإن التحديات التي فرضتها الحرب في أوكرانيا تدفعه إلى التفكير في مزايا منح إردوغان قدرة أكبر على الحركة في سوريا”.
لكن ما سبق قد يؤدي إلى “تغذية الخلاف التركي الغربي بشأن المسألة الكردية ومن جانب آخر، سيُعطي أردوغان ما يحتجاه لضمان عدم انخراط تركيا في الجهود الغربية لخنق روسيا ولدفع أنقرة إلى تخفيف القيود التي فرضتها على حركة وصول القوات الروسية إلى سوريا”.
واعتبر علوش أن “هذه اللعبة تنطوي على بعض المخاطر على أنقرة، فقد تؤدي من جانب إلى تأجيج خلافاتها مع الغرب والقضاء على فرص أي عملية لإعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية، ومن جانب آخر، ستُصبح تركيا أكثر اعتمادا على روسيا في تلبية مصالحها في سوريا”.
ماذا عن الإدارة الكردية؟
على الطرف المقابل يبدو من تصريحات المسؤولين الأكراد أنهم يتخوفون من سيناريو مماثل لما حصل في 2019، وهو ما أشار إليه بيان “الإدارة الذاتية” الكردية، حيث طالبت الأحد، بنشر “قوات أممية على الحدود مع تركيا”.
واعتبرت أن “أي هجوم تركي سيكون له تداعيات خطيرة في مسألة التطهير العرقي، وخلق صراع طويلة الأمد بين مكونات المنطقة”.
ويرى المحلل السياسي، إبراهيم كابان أن “الظروف الدولية والعسكرية والسياسية والأمنية والداخلية السورية تختلف ما بين العمليات السابقة التي أطلقتها تركيا في شمال سوريا والتي تهدد بها الآن”.
ويقول كابان لموقع “الحرة”: “الآن الظروف مختلفة. هناك نتائج ليست لصالح المزاج السياسي والعسكري التركي. هي نتائج عملية دولية ناتجة عن الصراع الروسي الأوكراني. هناك صدام بين القوى الغربية وروسيا”.
وتعتبر “قسد” إحدى القوى التي تعتمد عليها أميركا في سوريا، وبالتالي، بحسب كابان، فإن “أي عملية جديدة ضدها سيدفعها للجوء إلى خيارات أخرى”.
ويوضح حديثه بالقول: “بمعنى أن أميركا لو عقدت صفقة مع تركيا ستتجه قسد لعقد صفقة مع روسيا. وبالتالي سيكون هناك مانع روسي لهذه العملية، وسنشهد عملية انتشار وامتداد للقوات الروسية”.
ويعتقد المحلل السياسي أن ما سبق “هو السبب الرئيسي للمنع الروسي الأميركي على حد سواء لأي تمدد تركي في سوريا”، معتبرا أن “العملية التركية فقدت قوتها بحكم المصالح الدولية والإقليمية التي ترفضها في سوريا. هي لن تكون في المنظور القريب”.
“سوريا أولوية”
في غضون ذلك ومع انشغال العالم بما يجري في أوكرانيا وتصدرها الأجندة السياسية العالمية، “تبقى سوريا بالنسبة لتركيا أولوية”، بحسب باسل الحاج جاسم، وهو مستشار سياسي وباحث في العلاقات الروسية والأوروبية.
ويقول الباحث لموقع “الحرة”: “اليوم باتت قضية عودة اللاجئين السوريين أو معظمهم طواعية إلى بلادهم تتصدر الأجندات الداخلية في تركيا، ولا يمكن إغفال حقيقة أن هذا الملف مرتبط كذلك بالأمن القومي التركي وإزالة الخطر وراء الحدود”.
ويتوقع الحاج جاسم أن العملية “وفي حال حدوثها ستكون خلال الأسابيع القليلة المقبلة، أي قبل أن تبدأ الاستعدادات للانتخابات”، معتبرا أن “إغلاق ملف حساس لتركيا كهذا متعلق بالأمن القومي يعتبر ورقة سياسية ذات أهمية بالغة للداخل التركي”.
من جهته يشير الباحث محمود علوش إلى أن “العملية ستكون فرصة لتركيا لاختبار موقف الغرب تجاه نشاط الوحدات الكردية، وكذلك اختبارا لمدى استعداد موسكو على مراعاة المصالح الأمنية لتركيا”.
وكذلك الأمر بالنسبة للكاتب والصحفي التركي، فاتح شكرجي، حيث يرى أن القرار النهائي للعملية العسكرية سيكون “للإرادة السياسية”.
ويشير إلى أن “محادثات إردوغان مع نظيره بوتين، الاثنين، ستكون حاسمة فيما يتعلق بإمكانية شن عملية”.
وأخبر إردوغان بوتين خلال اتصال هاتفي الاثنين، وفق وكالة “الأناضول” أنه “لم يتم إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترا في شمال سوريا، على الرغم من الاتفاق عليها بين تركيا وروسيا في أكتوبر 2019″.
وأخبره أيضا، أن “وحدات وحدات حماية الشعب كانت تهاجم المدنيين، وأنه من الضروري جعل المناطق الحدودية مكانا آمنا”.