تكوّن الجنين… جوانب غامضة في عمليات التلقيح والإخصاب
الرياض: د. حسن محمد صندقجي
لا تزال أوساط البحث الطبي تبذل الجهود لفهم العوامل التي تسهم في نجاح أحد الحيوانات المنوية (الحيامن) بإتمام عملية إخصاب البويضة Fertilization، كي تبدأ بعد ذلك عملية تكوين الجنين. ونجاح هذا الحيمن في الوصول إلى البويضة وتلقيحها، لا يتطلب فقط قدرات عالية لديه، بل أيضاً «مساعدات» من الجهاز التناسلي الأنثوي. وهذه الجوانب هي محل بحث علمي مكثف.
– عوامل وتفاعلات
بالتوافق مع فعاليات المؤتمر السنوي السابع والأربعين للجمعية الأميركية لطب الذكورة ASA، نشرت مجلتها العلمية «الذكورة» Andrology في 12 مايو (أيار) الماضي، النسخة المصححة لدراسة المراجعة العلمية التي أعدتها البروفسورة سابين كويل، من كلية الطب بجامعة كلية دبلن في إيرلندا، بعنوان «تفاعلات الحيوانات المنوية مع قناة مرور البويضة: العوامل الرئيسية لبقاء الحيوانات المنوية على قيد الحياة والحفاظ على قدرة الحيوانات المنوية على التخصيب». وكانت الجمعية الأميركية لطب الذكورة قد عقدت مؤتمرها السنوي لهذا العام في الفترة ما بين 7 و10 من الشهر الماضي، تحت عنوان «رحلة خصوبة الذكور: من الجنين إلى حياة البالغين والعودة مرة أخرى».
وقالت البروفسورة كويل في مقدمة دراستها «تلعب تفاعلات الحيوانات المنوية مع قناة مرور البويضةSperm – Oviduct Interactions دوراً محورياً في الإخصاب الناجح. وفقط الحيوانات المنوية، القادرة على التفاعل مع خلايا النسيج الطلائي لبطانة أنابيب مرور البويضة Oviduct، هي التي ستبقى على قيد الحياة وتحافظ على قدرة التخصيب Fertilizing Capacity لمدة 4 – 5 أيام».
ومعلوم أن أنابيب مرور البويضة، أو ما يُعرف بقناة فالوب Fallopian Tube، تشمل ثلاثة أجزاء، هي:
– جزء القمع الذي يواجه المبيض، ويلتقط البويضة عند خروجها منه. ويُحيط بحواف القمع تراكيب كالخيوط، تسمى خمائل البوق.
– الجزء الأنبوبي الطويل، أمبولة البوق، الذي يشكل الجزء الأكبر من أنبوب المرور هذا.
– جزء البرزخ، الذي هو الجزء الأضيق عند التقاء الأنبوب مع الرحم نفسه.
وعرضت الباحثة في مراجعتها العلمية، جوانب من المعرفة الحديثة حول العوامل التي تعيق انتقال الحيوانات المنوية وسلوكياتها في طريقها لملاقاة البويضة، وإتمام عملية التلقيح. وذكرت، أن الانخفاض الأول في توفر الحيوانات المنوية لإتمام عملية تلقيح البويضة Fertilization Process، يحدث من خلال الخروج المباشر من المهبل بعد الجماع؛ مما قد يؤدي إلى فقدان نحو 35 في المائة من الحيوانات المنوية، على أقل تقدير. ثم يجب أن تمر الحيوانات المنوية عبر عنق الرحم Cervix، وهو أول حاجز رئيسي للحيوانات المنوية في الجهاز التناسلي الأنثوي. وأن نحو 85 في المائة من الحيوانات المنوية المتبقية، ستلتصق بمخاط عنق الرحم، وبالتالي يتم استبعادها من عملية الإخصاب. وهو الانخفاض الثاني في توفر الحيوانات المنوية لإتمام تلقيح البويضة.
واستطردت بقول ما ملخصه: ثم تدخل الحيوانات المنوية إلى تجويف الرحم لتعبره، حيث يحصل انخفاض ثالث في أعداد الحيوانات المنوية التي تنجح في ذلك. ثم تضطر إلى المرور عبر مضيق منطقة التقاء الرحم بأنبوب مرور البويضة (جزء البرزخ الذي تقدم ذكره). وهو الحاجز الرئيسي الثاني للحيوانات المنوية في طريقها إلى قناة مرور البيوضة. ومن خلاله يحصل الانخفاض الرابع في أعداد الحيوانات المنوية. أما الانخفاض الخامس فيحصل في محاولة العبور لقناة فالوب نفسها، حيث تكافح الحيوانات المنوية للمضي قدماً في مواجهة التيار القوي (الذي يدفعها إلى الخلف ويعيق تقدمها) الناتج من حركة الأهداب الموجية للخلايا المبطنة لجدار قناة مرور البويضة.
– «عقبات» و«تسهيلات»
وللتوضيح، ثمة بعض العقبات «التشريحية» وأخرى «بيئية»، التي سوف تواجهها الحيوانات المنوية داخل الجهاز التناسلي الأنثوي، ومنها ما يلي:
– البيئة الحمضية الطبيعية في المهبل، تتلف الحيوانات المنوية.
– ترصد خلايا الدم البيضاء للمرأة (التي تمثل استجابة جهاز المناعة)، الحيوانات المنوية بأنها أجسام غريبة، وتحاول تدميرها.
– حالة الإغلاق لعنق الرحم.
– طول المسافة على الحيوانات المنوية، والحاجة لمصادر الطاقة لعبور المسافات تلك.
– إضافة إلى عقبات «متقدمة» أخرى.
ولكن الخبر السار في مقابل كل هذه «العقبات»، هو دور مكونات السائل المنوي في حماية الحيوانات المنوية ودعمها، ودور المساعدة التي يبذلها الجهاز التناسلي الأنثوي لجذب الحيوانات المنوية نحو البويضة. وذلك عبر العوامل التالية:
– البويضة تبذل الجهد لتمهيد وتوضيح الطريق أمام الحيوانات المنوية، عبر إطلاق مركبات كيميائية وإرسال الإشارات إلى الحيوانات المنوية كي تجذبها إليها وتدلها على مكان تواجدها.
– السائل المنوي المصاحب للحيوانات المنوية، يحيّد تأثير حموضة المهبل ليحمي الحيوانات المنوية.
– يحتوي السائل المنوي على سكر الفركتوز (سكر الفواكه)، الذي يوفر بشكل متواصل مصدر إنتاج الطاقة في الحيوانات المنوية، ما يضمن حياتها وعملها.
– تعمل مكونات عدة في السائل المنوي كدرع واقية، أمام خلايا الدم البيضاء.
– يكون مخاط عنق الرحم أثناء فترة الإباضة أكثر سيولة وأقل كثافة لتسهيل مرور الحيوانات المنوية. وفي غير هذه الفترة، يكون أكثر كثافة ولزوجة.
– تستخدم قناة فالوب والرحم قوة شفط، عن طريق إحداث تقلصات عضلية منتظمة تدعم سير الحيوانات المنوية نحو البويضة.
وأضافت الباحثة «ولا يحدث الإخصاب الناجح إلا عندما تلتقي الحيوانات المنوية والبويضة في المكان المناسب (أمبولة البوق)، وفي الوقت المناسب (في غضون 12 – 24 ساعة بعد الإباضة). وبالتالي، فإن إتمام نقل الحيوانات المنوية في الجهاز التناسلي للأنثى ضمن التوقيت المناسب، والحفاظ على قدرة الحيوانات المنوية على الإخصاب في قناة مرور البويضة، ضروريان لزيادة فرصة الإخصاب، وفي الوقت نفسه لضمان نجاح أفضل الحيوانات المنوية فقط».
وأوضحت «يمكن تصنيف تفاعلات الحيوانات المنوية مع قناة مرور البويضة في: تفاعلات فيزيائية وتفاعلات جزيئية». والتفاعلات الفيزيائية تشمل السباحة ثلاثية الأبعاد للحيوانات المنوية داخل تراكيب الهيكل المعماري الدقيق لقناة مرور البويضة، وخاصة الغشاء المُبطن لهذه القناة. بينما تشمل التفاعلات الجزيئية إفراز جزيئات كيميائية معينة من كل من الحيوانات المنوية ومن بطانة قناة مرور البويضة.
– آليات غامضة
وبيّنت، أن أثناء انتقال الحيوانات المنوية في الجهاز التناسلي الأنثوي، تخضع الحيوانات المنوية لعملية «التكثيف» Sperm Capacitation؛ مما يسمح لها بالحصول على القدرة على التخصيب Fertilizing Capacity. وتتضمن هذه العملية إزالة البروتينات السكرية الملتصقة بسطح رأس الحيوانات المنوية، وتحزيم حجم رأس الحيوان المنوي لتصغيره، كما يصبح الذيل أقوى وأكثر قوة لتتحرك بالطاقة ويكون الوصول إلى البويضة بسهولة أكبر. ورغم ملاحظة هذه التغيرات، تظل الآليات الجزيئية الدقيقة لحصولها غامضة للباحثين الطبيين، ولم يتم تحديدها بالكامل، وفق ما ذكرته.
وقالت، إن مما سهّل فهم هذه الجوانب هو «في السنوات الأخيرة، ظهرت تقنيات حديثة ومتطورة مثل التصوير الرقمي للخلايا الحية LCI لتتبع الحيوانات المنوية داخل الأنبوب، والتصوير بالمجهر التطابق البؤري (ثلاثي الأبعاد) Confocal Microscopy لتتبع الحيوانات المنوية داخل الجهاز التناسلي الأنثوي، والتصوير المقطعي التوافقي البصري Optical Coherence Tomography. وكلها ساهمت في التتبع ثلاثي الأبعاد، وعالي الدقة والسرعة، للحيوانات المنوية».
وعرضت ما ملخصه أن: الدراسات الحديثة بينت أن قدرات حركة الحيوانات المنوية وحدها، لا تساهم بذاتها وبشكل أساسي، في تقدم الحيوانات المنوية في السباحة داخل الجهاز التناسلي للأنثى. بل أثبت التصوير الرقمي للخلايا الحية LCI للحيوانات المنوية داخل الأنبوب أن تقدم الحيوانات المنوية يتحقق بشكل أساسي من خلال تقلص العضلات الملساء المحيطة بقناة مرور البويضة Oviduct Contractions، وتكوين الحركة الدودية لقناة مرور البويضة Oviduct›s Peristaltic Movements، التي تساعد الحيوانات المنوية على لقاء البويضة.
وعرضت البروفسورة كويل جانباً آخر مهماً مما «قد» يجري في قناة فالوب لدى المرأة، وهو: هل بالفعل يتم «خزن الحيوانات المنوية» Sperm Reservoir فيها إلى حين توفر البويضة؟
وقالت «عندما تدخل الحيوانات المنوية إلى قناة فالوب، يرتبط رأس الحيوانات المنوية بأهداب خلايا بطانة قناة فالوب، وتشكل خزاناً للحيوانات المنوية. وتم توثيق وجود خزان للحيوانات المنوية في عدد من الحيوانات. ويمكّن هذا من الحفاظ على حركة وقدرة الحيوانات المنوية على الإخصاب لمدة 3 – 5 أيام (معظم الثدييات)، أو أسابيع (الطيور)، أو أشهر (الخفافيش)، أو حتى سنوات (الثعابين). ومع ذلك، لا يزال هناك نقص في توثيق حقيقة تكوين خزان للحيوانات المنوية في ظل ظروف الجسم الحي للمرأة».
– خطوات متعددة لتكوين وقذف السائل المنوي
> رحلة الحيوانات المنوية في جسم الرجل، أي من الخصيتين إلى الخارج، تشمل مرحلتين، هما: التكوين والقذف.
ويستغرق تكوين الحيوان المنوي Spermatozoa الواحد الناضج نحو 90 يوماً. وبالأصل، تُولد الحيوانات المنوية في الأنابيب المنوية Seminiferous Tubules المتراصة داخل الخصيتين، ويستغرق تطورها نحو 75 يوماً.
ثم تنتقل إلى البربخ Epididymis. والبربخ هو أنبوب طويل ملتصق بالخصية، ويصل فيما بين الخصية والأسهر Vas Deferens. ومهمة البربخ هي خزن الحيوانات المنوية وإتمام عملية نضجها خلال نحو 15 يوماً أخرى، وإضافة مكونات عدة ضمن السائل المنوي عند القذف. وجسم الحيوان المنوي مكون من: رأس (يحتوي الحمض النووي)، وجسم (يحتوي تراكيب الميتوكوندريا التي تستخدم سكر الفواكه لإنتاج الطاقة)، والذيل (مهمته القيام بالحركة).
وخلال نضج الحيوانات المنوية، يحزم الحيوانُ المنوي الحمضَ النووي في منطقة الرأس؛ لجعله صغيراً قدر الإمكان؛ مما يسهل عليها السباحة واختراق المنطقة الشفافة لغلاف البويضة. كما يتم تطوير الذيل لجعل الحيوان المنوي أقوى ويتقدم للأمام بسرعة أكبر.
والأسهر هو أنبوب وعائي بطول نحو 30 سم، مسؤول عن نقل الحيوانات المنوية من البربخ إلى القناة الدافقة Ejaculatory Duct. وعند القذف، يتكون السائل المنوي من إفرازات أجزاء عدة من الجهاز التناسلي الذكري، وهي الخصية والبروستاتا وغدة كوبر والحويصلات المنوية Seminal Vesicles. والحيوانات المنوية بحد ذاتها لا تمثل سوى نحو 4 في المائة من حجم السائل المنوي الذي تأتي 65 في المائة منه من الحويصلات المنوية، و30 في المائة من إفرازات البروستاتا، و1 في المائة من غدة كوبر. ومكونات هذا السائل تساعد الحيوانات المنوية على البقاء، أي تُمدها بمصادر الطاقة والاحتياجات الأخرى اللازمة لبقائها على قيد الحياة.
وأثناء الجماع، تغادر البربخ كمية كبيرة من الحيوانات المنوية (250 مليوناً تقريباً) لتنتقل عبر الأسهر، وتمتزج بالسوائل التي تفرزها الأجزاء المذكورة، وصولاً إلى القناة الدافقة ثم الإحليل Urethra (قناة البول داخل القضيب)، وبعدها إلى المهبل.
– مسار طويل للحيوانات المنوية
> بعملية القذف، تدخل الحيوانات المنوية (مع السائل المنوي)، إلى المهبل، لتبدأ سباقها نحو تخصيب البويضة. وتبلغ مسافة انتقال الحيوانات المنوية للوصول إلى البويضة في قناة فالوب، ما بين 15 و18 سم. ولأن عمر البويضة لا يزيد على 24 ساعة، وقدرة الحيوانات المنوية البقاء على قيد الحياة لمدة تصل إلى 2 – 5 أيام داخل الجهاز التناسلي الأنثوي، فإن «السرعة» أحد العناصر المهمة في نجاح انتقال الحيوانات المنوية، وصولاً إلى البويضة.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية WHO، فما دام أن 40 في المائة على الأقل من الحيوانات المنوية، في تحليل السائل المنوي، قادرة على التحرك بشكل صحيح، فإن الحركة تعدّ طبيعية للحيوانات المنوية. وتُعرَف الحركة السليمة للحيوانات المنوية بأنها حيوانات منوية تتقدم إلى الأمام بمعدل 25 ميكرومتراً على الأقل في الثانية. ولذا؛ تسير الحيوانات المنوية البشرية بمعدل مذهل، يصل إلى 2 مليمتر في الدقيقة. وهي سرعة هائلة؛ لأن قطع مسافة المليمتر الواحد يمثل مشكلة كبيرة جداً بالنسبة للحجم الدقيق جداً للحيوان المنوي. ويبلغ متوسط طول الرحلة إلى قناة فالوب 175 مليمتراً. وأثبتت الدراسات، أنه لا يوجد فرق ملحوظ في السرعة بين الحيوانات المنوية ذات الكروموسومات X (الأنثى)، والحيوانات المنوية ذات الكروموسومات Y (الذكر).
ولذا؛ قد يستغرق وصول الحيوانات المنوية إلى قناة فالوب والالتقاء بالبويضة ما بين نحو 45 دقيقة إلى 12 ساعة. ومع ذلك، فإن أسرع الحيوانات المنوية قادرة على الوصول إلى البويضة في غضون 30 دقيقة تقريباً، اعتماداً على جودتها.
وبمجرد دخول أنبوب قناة فالوب، ستكتسب تلك الحيوانات المنوية قدرة غير عادية في زيادة نشاطها، وهي «القدرة على الإخصاب». وسيكون واحداً منهم فقط قادراً على الوصول إلى خلية البويضة، واختراق بابها، أي المنطقة الشفافة Zona Pellucida. ولهذه المهمة، يستخدم الحيوان المنوي الملتصق بالبويضة أحد تراكيبه الداخلية الموجودة في رأس الحيوان المنوي، ويُسمى أكروسوم Acrosome. وداخل الأكروسوم عدد من الأنزيمات التي تُذيب وتُضعف باب البويضة (المنطقة الشفافة)، ثم يدخل الحيوان المنوي. وبعدها تتحد نواة الحيوان المنوي مع نواة البويضة، ويحصل الإخصاب