د. محمد المجذوب يكتب.. خطاب اليسار .. وحصاد الهشيم
عندما تسود خطابات التفكيك والتنوع، بمزاعم انه لا وجود لشعب سوداني واحد وانما هنالك مجموعات من الشعوب السودانية وان هنالك مئات من القبائل واللهجات والاثنبات واللغات، والثقافات ، فإنهم بذلك يحصدون الهشيم ويدخلون البلاد في حالة الانقسام والاقتتلال القبلي، عندما تتغذي الجماعة بنزعات الكراهية والعنصرية والشعور الزائف بالتفوق العرقي، وبالمحصلة فإنهم يدخلون البلاد اتون الحرب الأهلية وهم يتحملون مسؤولية ذلك.
انها يا سادة اطروحات تفكيك السودان القديم، وارهاصات ما يسمي بمشروع السودان الجديد، سودان التنوع لا سودان الملة الواحدة والنفس الواحدة.
والحقيقة ان بعض مستجدي السياسة وناشطي الثقافة، قد يظن أن خطابات التنوع هي وعى وفكر ومشاريع ثقافية ، بيد انها خطابات عنصرية بامتياز لأنها تراهن على عنصر “الدم” كأساس للتمييز بين الناس في المجتمع، فنظرية التنوع العرقي والاثني كمذهب سياسي وكمشروع ثقافي يطرحه اليسار السوداني باطيافه المختلفة، تنتهي إلى أن أناس بعينهم يتمتعون بميزات بيولوجية موروثة هي التي تحدد سلوكهم ، وقد أكدت العقائد العنصرية المعاصرة عندهم أن الدم هو العامل المحدد لهوية الجماعات والشعوب العرقية وناقشت أن الخصائص الفطرية الموروثة هي المسئولة عن تحديد السلوك البشري.
فمعنى العرق يعرف بأنه عدد من النسال التي تلتقي أنماطها المثالية في سلسلة من الخصائص المشتركة، مثل اللغة والثقافة والقبيلة والجنس والجنسية، وهي مجموعة تكون شعور بالانتماء لهوية واحدة مع باقي اعضاء الجماعة. وفي احيان كثيرة تعرف الجماعات العرقية علي أساس علاقتها مع جماعات متماثلة مع الدولة ومتجاوزة لها.
وهكذا فقد فهمت تلك العقائد الإنسان السوداني لا على أساس تفرده الإبداعي المتعالي بل على أساس انتمائه العرقي المغلق فقط إلى ” جماعة عرقية موحدة”. وقد ساند ذلك ااخطاب العديد من السياسيين السودانيين الانتهازيبن، لاسيما ناشطة اليسار السياسية دون أساس علمي مقبول في ذلك.
والحقيقة أن مشروع التنوع هو مشروع تفكيك للسودان ومجتمعه المتسامح عبر القرون، على قاعدة الثقافة الإسلامية ، فمشروع التنوع وعلى خلاف النظرة الاسلامية التى اكدت على مبدأ وحدة أصل الخلق الإنساني في النفس البشرية، بيد انها تنطلق في نظرتها للإنسان لا من منطلقات عقيدة عنصرية وتنوع قبلي واثني ولغوي محدود، وانما من منطلق كون أن الانسان كل الإنسان قد خلق من نفس واحدة ، هو مخلوق مكرم، رفعه الله تعالى وكرمه بالأخلاق على سائر المخلوقات، فالله تعالى خلق الناس ابتداء من النفس الواحدة وخلق منها زوجها، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {النساء/ 1}.
وهي سياقات تشرح أسس الوجود الأول، إذ فيها خطاب للناس عامة يردهم إلى الله الخالق الواحد الذي خلق الكون، كما يردهم إلى مصدرية واحدة في الخلق هي “النفس” البشرية، التي هي النواة الجوهرية للكائن الإنساني، فالآيات تأتي في سياق تذكّير الناس، كل الناس، بماهية الخلق الأولي الذي خلقوا منه، وتردهم إلى الله تعالى خالقهم الذي أنشأهم من الأرض، كما إن الآيات تشير إلى أن البشرية الصادرة عن إدارة الله الواحدة تتصل في رحم واحدة، وتنبثق من أصل خلقي واحد ينتهي إلى نسب واحد، وهي المسلمة الابتدائية التي لو استقرت في العقول والقلوب لكانت كفيلة بإنهاء التنافر والاستعلاء العنصري والعرقي والنوعي لأفراد الجنس البشري على الآخرين.
كما ان الفكر الإسلامي يشرح علاقات التعارف بين الناس في المجتمع على ذات أساس التكريم الأخلاقي عندما يأتي من خلال الخطاب العام للناس، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {الحجرات/ 13}، ومعنى الآية أن جنس بني آدم مجعول في شعوب وقبائل واثنيات مختلفة، وأن هذا الجعل أحد سنن الله تعالى في الخلق والمجتمع، وعلى هذا فإنه يستحيل جعل الناس في العالم على شعب واحد أو أثنية واحدة، لهذا فإن سياسات إبادة أو تذويب شعب ما و عرقية ما في العالم بالقوة المادية أو اضطهادها، ضرب من الفساد في الأرض، والمطلوب دوماً هو التعارف والسعي بين الشعوب والجماعات والقوميات، فلا عصبية عرقية ولا أفضلية أثنية في النوع الإنساني، والرؤية للمجتمع السياسي لا تكتفي بالتأكيد على ضرورة التعارف بين أبناء آدم بالهجرة والسفر والتجارة ونحو ذلك.
ولكن فضلاً على ذلك تعمل على بناء نسيج اجتماعي برابطة ومواثيق عقدية وأخلاقية وإنسانية وعالمية، فمثلاً عندما يهدي إلى إقامة المجتمعات على أسس غير تقليدية يكون فيها الإيمان بالله وحده والإيمان باليوم الأخر، ضمانة كافية لخلق مثل ذلك النسيج المتجدد الذي هو تعبير عن سنة الله في جعل الناس شعوباً وقبائل غير التي كانت من قبل، وكأنما الرؤية للمجتمع لا يحبذ بقاء مجموعة سكانية ما في المجتمع منغلقة عرقياً على نفسها، دون أن تختلط بالآخرين فتتزاوج، ومن هنا نفهم توجيه النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة زواج الرجال من نساء غريبات عنهم من جهة النسب، ليخلق خلقاً آخر وتنشأ شعوب أخرى وقبائل جديدة.
وهكذا فانه وانطلاقاً من رابطة الوجود الكبرى للاجتماع الإسلامي المؤصلة على معنى توحيد وعبادة الله الواحد المتعالي، وقمنا برد أصل الخلق الواحد إلى النفس الإنسانية وأنه بواسطة الأرحام يبث الله تعالى الناس رجالا ونساء، فإن هؤلاء يتوجب أن تقوم علاقاتهم على تقوى الله، باعتبار أن التكليف بالتزام الدين وإقامة اجتماع المسلمين، إنما هو تكليف فردي خاص، فكل نفس بما كسبت رهينة.
كما ان الآية تقرير الحقيقة الظاهرة وهي إن الناس مخاطبون كأفراد لا كقبائل ولا كعشاير أو اثنيات، كما يهرف مشروع اليسار والمخابرات وعليهم تقع المسؤولية الفردية في تأسيس اجتماع المسلمين، وهؤلاء الناس هم الذين يكونون الأسر المكونة للعشائر التي يجعل الله منها القبائل والشعوب لتلتقي على تقوى الله، لأن الإسلام لا يجعل أواصر الترابط بين الأسر أساساً للاجتماع، يقول تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ {الشعراء/ 214}.
والحقيقة ان مشروع المجتمع في دعوة الإسلام يتأسس على معنى الاخوة و الأنا الأمة، كمعنى مغاير لمعنى الأنا الفردانية الليبرالية أو الأنا الطبيقية الاشتراكية، فضلاً عن الأنا القبلية أو العشائرية أو القومية أو العنصرية … إلخ، لأن أنا الامة في الحقيقة تعبير عن نحن معينة، تغني نفسها على نمط الأنا الفردية، من دون أن تتحول إلى أنا فرد، بل تعني نفسها مباشرة كأنا الفرد، ومن هذه الجهة، تختلف نحن “الامة” في المجتمع من نحن الجماعات الصغيرة، كونها من شاكلة الجماعات الكبيرة الشاملة والجماعات السياسية التي لها النحن التي تخصها وتميزها، وتعبر عن وحدة كيانها.
وبذلك يتحول الإنسان المكرم الحر، أي الإنسان المؤمن، هو الانسان القاعدي لمشروع المجتمع السياسي، لا الانسان العرقي، كونه ذلك الإنسان الذي يحقق بالتقوي والالتزامات الأخلاقية الحرة كمال كرامته الإنسانية ويكون لحظتها هو سيد نفسه، فيكون عندئذ هو ذلك المخلوق والكائن، الذي يحمل في ذاته الحاجة إلى الرغبة المتعالية ويشعر بالخوف والأمل إزاء رحمة الله ولطفه وهدايته، ويتمتع بالمشيئة الحرة والروية، وينشد الطمأنينة والسكون، ويسعى إلي تحقيق الحق وتجنب المفاسد، ويندفع بالحب والكراهية ويتطلع للفضيلة والاستقامة والى رضاء الله تعالي، فينمو وينفتح كيانه ثم يشيخ، ولكنه في كل أحواله يرشد سلوكه بالهدى المتعالي.
ملحوظة هذا المقال للعقلاء فقط