عثمان ميرغني يكتب.. السودان.. حكاية سرقة 13 مليار دولار
تابع السودانيون باهتمام تقريراً بثته فضائية CNN أمس الجمعة 29 يوليو 2022، خلص إلى أن قيمة الذهب الذي يُستخرج من أرض السودان ويهرب إلى روسيا تفوق 13 مليار دولار سنوياً، عبر شركات روسية تعمل في التنقيب وإنتاج الذهب الذي يقلع من مهابط الطائرات في قلب الصحراء ويخرج دون المرور على إجراءات سيادية ورسمية من بنك السودان المركزي.
وأشارت الفضائية الأمريكية إلى أن هذا الذهب يمول المجهود الحربي لروسيا، في وقت تجتهد فيه أمريكا والدول الأوروبية في محاصرة روسيا اقتصادياً وتكبيل قدرتها على الاستمرار في تمويل فاتورة الحرب الباهظة.
وربما يكون هذا الرقم أقل كثيراً من الحقيقة، فطالما لا يوجد أحد قادر على رؤية ما يخرج من باطن الأرض ثم يطير مباشرة إلى الخارج، فأي رقم يُذكر قابل للتصديق، لكن تبقى القضية الأهم، كيف؟ ولماذا؟
كيف تستباح ثورة هائلة مثل هذه في بلد يكاد يحتاج لكل دولار ليقابل عجزاً مهولاً في نفقاته الضرورية، مثل الغذاء والدواء بل وحتى تمويل دوران عجلة دولاب الخدمة المدنية الضخمة؟
ولماذا تخرج مثل هذه الثروة – بغض النظر عن الجهة التي تذهب إليها – دون أن تطالها يد الرقيب أو إجراءات الاستثمار الأجنبي العادية التي تضبط ما لقيصر لقيصر وما للسودان للسودان؟
الإجابة تبدو أكثر إيلاماً من الذهب المُهرَب؛ فقبل عدة أشهر كان لدينا لقاء مع مسؤول رفيع في السياحة بمقر المتحف القومي بالخرطوم، وهو أحد أهم المراكز السياحية بالسودان، أتذكر زيارتي له وأنا طالب بالجامعة، وكان يضم كنوزاً تاريخية هائلة من الآثار لمختلف حقب السودان القديمة، وكثير من هذه الآثار من الذهب الخالص، واستأذنته أن أتجول قليلاً في صالات المتحف، ففوجئت به يقول لي ”ليس هناك ما يستحق أن تراه فالمتحف شبه خال!“.
أين ذهبت الآثار والذهب والثروة التاريخية التي لا تُقدر بثمن؟ لا إجابة.
لم تقف المأساة هنا، فقد روى لي أن آثاراً أخرى خارج المتحف في مختلف ولايات السودان لم يعد يُعرف أين ذهبت بعد أن بدأت في الاختفاء تدريجياً.
هذه الكنوز التي تجمع بين الثروة والمجد التاريخي لم تُسرق عبر مطارات في قلب الصحراء كما الذهب، بل هنا في الخرطوم نهاراً جهاراً ومن داخل مقار رسمية محروسة! ودون أن تُذرف عليها دمعة حزن واحدة.
في مشروع الجزيرة الذي تبلغ مساحته أكثر من مليوني فدان، كان حتى عهد قريب يكاد يستقل بشبكة سكك حديد واتصالات ومقار موزعة في مساحات مترامية. هذه المنشآت بما فيها قضبان السكك الحديدية المغروسة في الأرض كلها وفي وضح النهار سُرقت عياناً بياناً، حتى البيوت الفخمة التي أنشئت لإقامة مفتشي الزراعة نهبت كاملة، بما في ذلك الطوب الذي بُنيت به والأسقف والأبواب والنوافذ.
شريط سكك الحديد الذي يربط العاصمة الخرطوم مع شرق السودان فيسير جنوباً حتى مدينة سنار ثم يصعد شرقاً إلى مدينة كسلا، اختفت كامل قضبان مساره من سنار إلى كسلا، وهي مسافة تقترب من 600 كيلومتر من السكك الحديدية.
قبل عدة سنوات، ذهبت لزيارة مقر الجمعية التأسيسية ”البرلمان“ بالخرطوم، وهو موقع تاريخي فريد شيّده المستعمر البريطاني بالمواصفات والتصميم الذي يشبه تماماً مقر البرلمان البريطاني في لندن. المفاجأة أنني لم أجد شيئاً في الموقع يدل أنه كان هنا برلمان تاريخي، زاره كبار زعماء العالم وتحدثوا من منصته وأهمهم الملوك والرؤساء العرب في أشهر قمة عربية أغسطس 1967 بعد حرب الأيام الستة مع إسرائيل مباشرة، التي أطلق عليها قمة الـ“لاءات“ الثلاثة.
حتى مقاعد البرلمان الشهيرة اختفت تماماً، والأدهى الصور التاريخية الثمينة التي وثّقت لتاريخ الأحداث والشخصيات التي مرت على الموقع، لا شيء على الإطلاق.
ذهب السودان الذي اكتشفت فضائية CNN خروجه بلا تأشيرة أو إجراءات لم يكن استثناء من حالة غياب الدولة المؤسسية، فالذي يضبط الموارد بل ويبسط السيادة على كامل جغرافية السودان ليس هو مجرد شخصيات أو نظام سياسي أو نوايا حسنة أو سيئة، بل هو ”مؤسسات“ تحقق معنى ”دولة القانون“ كما هو الحال في كل بلاد الدنيا.
من الممكن اتهام شخص أو جهة بالتقصير إذا كان الأمر محصوراً فقط في مورد واحد وثغرة واحدة حتى ولو كانت تكلف البلاد عشرات مليارات الدولارات، لكن عندما تشيع حالة غياب الدولة في محتواها المؤسسي تستوي سرقة دولار ومليون دولار.
العبرة ليست في القيمة، بل في أن الدولة نفسها منزوعة القوام المؤسسي، أشبه بشخص يعاني من فقر دم وانهيار كامل في صحته غير قادر على الوقوف على رجليه، فلن يضيره شيئا إن سرقت ساعته من معصمه، فالذي يفتقده هو العافية لا الساعة.
في قصة درامية سرقت عصابة إجرامية خزائن مصرف كبير، كان يكتنز ملايين الدولارات، وعندما بلغوا مأمنهم قال أحد أفراد العصابة للزعيم، دعنا نَعُد الأموال التي سرقناها، فرد عليه الزعيم ولماذا نتعب في عَدِها؟ سنعرف الرقم عندما نسمع نشرات الأخبار.
من قال إن الذهب المسروق يعادل 13 مليارا فقط وليس 33 أو حتى 300 مليار دولار؟ طالما هو مسروق بلا أوراق ولا تمر الشحنات على جهة رقابية.
المسروق ليس ذهباً، بل دولة.