Site icon اسفير نيوز

حسين عبدالحسين يكتب.. فوكوياما.. نهاية التاريخ أم نهاية الليبرالية

“الليبرالية والامتعاض منها” هو أحدث كتاب للعالم السياسي الأميركي فرنسيس فوكوياما، الذي يقترن اسمه لدى كثيرين بكتابه “نهاية التاريخ”، وهو الكتاب الذي تحول مصدر تهكم لدى البعض. في “نهاية التاريخ”، رأى فوكوياما انتصار الديمقراطية الليبرالية على الدكتاتورية الشيوعية، أواخر القرن الماضي، على أنها انتشار تام لليبرالية ونهاية الصراعات حول العالم، وتاليا نهاية التاريخ. لكن منذ مطلع القرن و”نهاية التاريخ”، اعاد فوكوياما النظر فيما كتبه.

ومنعا للالتباس، يفتتح فوكوياما كتابه بتعريفه الليبرالية في سياقها الكلاسيكي، وهي فلسفة سياسية ترى أن الدولة مبنية على المواطنين كأفراد، على عكس الفلسفات السابقة التي تتشكل بموجبها الدول من تحالف بين رؤساء القبائل والعشائر وتلغي وجود الفرد واستقلاله وحريته في خياراته.

في بريطانيا، أدت الحرب الأهلية في القرن السابع عشر إلى توق بعض المفكرين إلى حاكم قوي يفرض الأمن، لكن هذا الحاكم استبد بأمره وحرم الفرد معظم حريته، فكان لا بد من البحث عن حل وسط بين قوة الحاكم المطلوبة لاستتباب الأمن وحقوق المحكوم، فكانت الليبرالية، التي تمنح الفرد حقوق الملكية المادية والفكرية، وحرية الاختيار في العبادة كما في التصرفات الشخصية الاجتماعية، بما فيها الجنسية، واختيار مكان الاقامة ونوع العمل. الحق الوحيد الذي يتخلى عنه الفرد ويفوّضه لمؤسسات الدولة هو استخدام العنف، فتستخدم الدولة التفويض بالعنف حتى تحمي المواطن من الآخرين ولتحمي الآخرين منه. لكن عنف الدولة قد يؤدي إلى التعسف، وهو ما فرض إقامة مراكز قوى متعددة داخل الدولة يراقب ويحاسب بعضها البعض الآخر.

بعد نهاية الحرب الباردة في العام 1990، انتشرت الليبرالية في العالم وساد السلام بشكل غير مسبوق. لكن البشر حمّلوا الليبرالية أكثر مما تحتمل، فتوقعت الغالبية أن تدر الليبرالية عليهم الأموال والرفاهية. ما حصل، عوضا عن ذلك، هو أن الليبرالية كمنظومة أممية أدت الى الغاء الحدود والعولمة، فهربت بعض رؤوس الأموال الى حيث اليد العاملة الأرخص، وخسرت مجموعات عمالية كثيرة أعمالها ومصادر رزقها، وضعفت الدولة بسبب انعدام قدرتها على اغلاق حدودها لمنع هروب الأموال إلى حيث العمالة الأرخص أو تدفق اللاجئين الذي قدموا يدا عاملة أرخص من المحلية. هكذا اتسعت الفوارق بين الأكثر ثراء والأكثر فقرا في سياسة اسمها نيوليبرالية، وهي تختلف عن الليبرالية الكلاسيكية التي لا تتدخل في سياسات الاقتصاد، بل تنحصر في تحديد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكوم.

انتقال الاقتصادات المتطورة من الصناعة إلى المعرفة ساهم بتعميق الأزمة أكثر، وسمح انتشار الفقر بصعود السياسيين الشعوبيين من اليمين الشوفيني المتطرف، الذي طالب بإغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين والتخلي عن التجارة العالمية، كما من اليسار العالمي المتطرف كذلك، والذي اعتبر أن المعركة هي بين فقراء كل العالم ضد أغنياء كل العالم.

وتسبب غضب الطرفين اليميني واليساري بتراجع الوسط والليبرالية، وتجلى ذلك بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة.

ويعبّر فوكوياما عن قلقه لأن الغضب العالمي ضد العولمة، خصوصا عند الغربيين، تحول الى تخلٍ عن المبادئ الليبرالية المؤسسة للديموقراطيات الغربية، فصار كل من اليمين واليسار يعبّر عن غضبه ضد الجمهورية ونظامها ومؤسسات الدولة، ويطالب بالانقلاب على هذه المؤسسات بالكامل، وأحيانا اللجوء للعنف لتدمير الدستور والمؤسسات وقوى الأمن والشرطة.

ويطالب اليمين اليوم باستبدال الدولة ومؤسساتها بحكم رجل قوي، سيتحول حتما الى ديكتاتور، كما في المجر، في وقت يطالب اليسار بنسف الدولة بالكامل وتحويلها الى حكم لجان شعبية. كما يتصور كل من الطرفين الآخر على أنه عدو يهدد وجوده، لا مجرد منافس في السياسة يتبارى ضده للفوز بالانتخابات وإقرار رؤية ما أو سياسات في الحكم.

على الرغم من قلق فوكوياما على مصير ومستقبل الليبرالية الغربية والمؤسسات المبنية عليها من اتساع رقعة ونفوذ معادي الليبرالية من اليمين واليسار المتطرفين، إلا أنه يستبعد أن ينجح أي منهما في تقويض الجمهورية الأميركية بسبب القوة الكافية التي تتمتع بها المؤسسات القائمة والتي تحمي الدستور والدولة، مثل الجيش والقضاء والقوى الأمنية.

في الفصول الأخيرة من الكتاب، يتوجه فوكوياما الى كل من الطرفين في محاولة لتوعية كل منهما، فيقول لليسار ألا تناقض بين الأممية والحاجة الى بقاء الدول والحكومات قائمة بحدودها الحالية. ويكتب فوكوياما: “في وقت قد تكون حقوق الانسان شريعة أممية، إلا أن فرضها ليس أمميا لأن فرض القوانين منوط بحكومات ذات حدود جغرافية معينة”. ويتابع القول إن “الدول الليبرالية مبررة بالكامل في تمييزها في الحقوق بين المواطنين وغير المواطنين لأن لا موارد أو مسوّغ لهذه الحكومات لفرض الحقوق أمميا”، وإن “كل الأشخاص المقيمين في دولة ما يتمتعون بالحماية القانونية نفسها، لكن المواطنين المشاركين في العقد الاجتماعي وحدهم من يتمتعون بحقوق وواجبات خاصة، خصوصا حق الاقتراع”.

أما اليمين الغربي، فينصحه فوكوياما بالتخلي عن عنصريته البيضاء واستبداله بالمواطنية التي ينادي بها. ويقول المفكر الأميركي إنه لو تخلى اليمين عن “سياسة الهوية” لاستقطب الأميركيين غير البيض، ومعظم هؤلاء هم من المهاجرين الجدد ممن يحملون أفكارا اجتماعية واقتصادية محافظة تتوافق مع أفكار اليمين الأوروبي والأميركي، وهو ما يسمح لليمين باكتساح الانتخابات بدلا من التحريض ضد الأقليات واستخدام سياسة التهويل لتحفيز البيض على التصويت.

ويختم فوكوياما كتابه الممتع بالقول إنه لو قيض لكل من اليمين أو اليسار الحكم (وهذا ما حصل جزئيا مع اليمين في فترى حكم ترامب)، فإن التغييرات التي يعد بفرضها لن تتحقق لعدم واقعيتها، بل أن كل من الطرفين سيواصلان الحكم حسب النظام والأعراف السائدة، مع تغييرات طفيفة في السياسات.

Exit mobile version