Site icon اسفير نيوز

هل سيسقط القمر؟

منذ اختراعه قبل أكثر من نحو قرن، ظل الفن السينمائي أميناً لمنبته العلمي مثل أي ابن بارّ ولد كمعجزة مدهشة من رحمه. لم يكتف بمواكبة أحدث التطورات العلمية والنهم إليها فقط، بل أبدى حال بلوغه سن الرشد، نزعة استقلالية تمثلت بشطحات من الخيال المتفوق تجاوزت في بعض الأحيان القوالب العلمية، وأفضت إلى إنتاجات نوعية عرفت بسينما الخيال العلمي.

اتكأت سينما الخيال العلمي في معظم الأوقات على دعامة السرديات الأدبية التي تعنى بالخيال العلمي الجامح، وهي نوعية أدبية تزخر بها المكتبات الكبرى وتلقى الكثير من التشجيع والترويج من دور النشر العالمية، واقتبست عنها عدداً كبيراً من النصوص أو الأفكار، وتمكنت السينما بفضل أدواتها المتطورة، وأيضاً بفضل مخيّلة خصبّة لصنّاعها، من ترجمتها بصرياً بإتقان فاق في كثير من الأوقات خيال الكتّاب بأشواط.

لكنها لم تتوقف عند حدود الاقتباس الأدبي، بل برعت بالمثل في إنتاج نصوص محكمة ومستقلة، تصدى لها مخرجون وكتّاب سيناريو باحترافية عالية، قادوا سينما الخيال العلمي إلى المرتبة الأكثر شعبية، لمقدرة هذه النوعية من محاكاة تطلعات وأحلام جماهيرية تطمح لآفاق مستقبلية مغايرة، وخاصة حين يتعلق الموضوع المطروح بتطور الجنس البشري وتحسين أنماط عيشه الصحية والوجودية.

تشعبت مواضيع أفلام الخيال العلمي تشعباً كبيراً، وتنوعت بين قصص غزو الفضاء وكائناته المتخيلة التي تهبط بمركباتها وتقنياتها المتطورة على الأرض، وبين الكوارث البيئية وسيناريوهات محتملة لنهاية العالم. وهو موضوع لاقى على الدوام جاذبية جماهيرية كبرى لما تشكله فكرة نهاية العالم، بارتباطها بالمعتقدات والميثولوجيا والأديان، من هاجس وجودي دائم لدى الإنسان.

كما حفلت بمواضيع عن أفراد بمقدرات خارقة تعود جذورهم إلى الفضاء أو إلى أنصاف آلهة مفترضين وجدوا على الأرض قبل آلاف السنين، أو تطرقت إلى مواضيع تتعلق بتطورات علمية وبيولوجية وطبية هائلة وتأثيرها النفعي على الإنسان أو ضررها. وتخيلت حيوانات خارقة ووحوش منقرضة يعاد إيقاظ بصماتها الوراثية بأخطاء بشرية تحدث في المختبرات ويستغلها الأشرار لاحقاً، وغيرها من المواضيع المثيرة التي شطحت بالمخيلة إلى أقصى الحدود.

لكنها، وإن تميزت بمجموعها بإنتاجات ضخمة ودقة تنفيذية مقنعة خدمتها فيها تطورات أجهزة الحاسوب المذهلة، إلا أنها لم تخل بطبيعة الحال من رسائل هادفة، وفي الغالب كانت الرسائل سياسية أو فلسفية وأخلاقية تحذيرية للبشرية، أبرزت في سياقها جبروت الطبيعة مقابل الضعف البشري، وانحازت للمشاعر الإنسانية السامية، مثل أهمية التعاضد البشري في النكبات والشدائد، وما يلعبه الحب من دور إنقاذي مستمر لحفظ النوع البشري.

ورغم أن معظم مواضيع أفلام الخيال العلمي المتعلقة بالفضاء بشكل خاص، تخيلت أن التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل للعوالم المفترضة الأخرى في الكون يتفوق على حضارة الإنسان على الأرض، إلا أنها سقطت في معظمها في فخ الرهاب الدائم منها ومن كائناتها، فأظهرتهم بأشكال غرائبية ومفزعة، يحملون عدائية كبرى للجنس البشري ويهدفون إلى إبادته واحتلال الأرض وماعليها.

صناعة وحش متخيل يهدد البشرية ويلهب حماسها لمقاومته والتصدي له، سمة طبعت معظم أفلام هوليوود، لكنها لا تختص بها وحدها، إذ تندرج ضمن السياق السياسي المعروف الذي تلجأ إليه العديد من دول العالم، عبر اختراع “فزاعة” من حين إلى آخر، تغطي المخاوف الناجمة عنها على قضايا سياسية ترغب الحكومات في إخفائها أو تشتيت الانتباه عنها. وعليه، تشحذ الهمم للقضاء عليها، وفي الغالب يتم القضاء عليها سينمائياً، أياً كانت قوتها وجبروتها.

قلة من المخرجين كسروا هذه النمطية، من أبرزهم المخرج ستيفن سبيلبرغ الذي قدم رؤية مغايرة تمثلت بفيلم (E.T) 1982، الذي يعتبره بنفسه أحد أهم ثلاثة أفلام من قائمة أفلامه، وصنف من قبل النقاد كأفضل فيلم خيال علمي تم صنعه، حسب موقع روتن توميتوز. إذ قدم به كائناً فضائياً صغيرأً ومختلفاً، ضل طريقه إلى الأرض، ودود، له أسرة محبة ستبحث عنه وتعيده إلى الوطن، دون عراك أو استعراض للقوة، أوعدائية مع الجنس البشري.

سبيلبرغ الذي انحاز في معظم أفلامه للطفولة والأجيال الناشئة التي تحمل البراءة والذكاء، تعمد هذا الانحياز العاطفي في صناعة أفلام خياله العلمي بوصفها أفلام تحمل سمات أو مؤشرات مستقبلية، وهو ماعول عليه من هذه الأجيال التي يمكنها أن تؤسس فيما بينها لسلام مشتهى، وتتمكن من عقد صداقات مميزة بين المختلفين عرقاً أو جنساً، أو نوعاً، كتلك الصداقة التي عقدت بين أطفال الأرض وكائن فضائي خفيف الظل يدعى E.T .

في السنوات الأخيرة، ومع ازدياد الاهتمام بأبحاث الفضاء والبحث عن كواكب يمكن للجنس البشري الحياة عليها، واكبت سينما الخيال العلمي هذا الاهتمام بشغف مضاعف، ورفعت من وتيرة  أفلامها النوعية، فتميزت أحدث إنتاجاتها بداية العام بفيلم مثل (Don’t look up)، إضافة إلى أحدث فيلم يعرض حالياً في دور العرض العالمية وهو (سقوط القمر Moonfall)، وأفلام أخرى قيد الإنجاز.

يجنح فيلم سقوط القمر نحو عوالم الفضاء مجدداً، ويفترض نتيجة لخلل غير معروف خروج القمر عن مداره واقتراب اصطدامه بالأرض، وهو خطر وجودي سيتصدى له ثلاث رواد فضاء يغامرون بأرواحهم ويقتحمون عمق القمر، ويكتشفون الآلية التي يعمل بها وينقذون الأرض.

وهي قصة مفترضة وإن بدا تنفيذها متقناً ومدهشاً وتضمن الكثير من الإثارة، إلا أنها لم توفق كفكرة لفيلم خيال علمي، لعدم استنادها إلى دعامة واقعية مقنعة، إذ يمكن للمخيلة التنبؤ بسقوط القمر في وقت من الأوقات، لكن لايمكن تخيل النجاة أو إيقاف هذا السقوط من قبل أفراد مهما بلغوا من علم وشجاعة وإمكانيات.

اليوم، ونحن في زمن وآفاق تلسكوب جيمس ويب الذي جسد خلاصة مئات السنين من الخيال العلمي، يمكن التوقع ببعض المخيلة المشتهاة، أن لاتتوقف هوليوود عن صناعة الدهشة، وأن تجنح بمخيلتها عما قريب لتواكب مثل هذا الانجاز، بفيلم خيال استثنائي يتماهى مع صور الكون الفسيح وافتراض عوالم أخرى يمكن التلاقي معها أو الحياة في واحدة منها، دون صدام أو عدائية أو رهاب أو سقوط أحد أقمارها المضيئة

Exit mobile version