مولانا أحمد ابراهيم يكتب.. السفيـر الامريكي جودفرى وما ينتظـره من مهام فى الخرطــ.وم ..

السفير الاميركي

0

منذ آخر سفير أمريكي غادر الخرطوم إلي نيروبي منتصف التسعينات ظلت العلاقة بين السودان والولايات المتحدة تدار عن طريق المبعوثين . لقد غضبت الإدارة الاميركية من السفير السابق مستر كارني فأحالته سفيرا لدولة صغيرة في الكاريبي ، إذ أنه بعد دراسته للأوضاع في السودان رفع للإدارة تقريرا نقل فيه أوضاع السودان بتجرد كما يملي عليه ضميره وأرفق توصياته بالتعامل الإيجابي مع السودان ولمصلحة الولايات المتحدة. ولكن الإدارة كانت قد حسمت أمرها في موضوع السودان وقررت إغراقه في حرب الجنوب وجره إلي ويلات التهم والعقوبات المشددة . وبدلا عن التعامل الدبلوماسي البروتوكولي بين البلدين والذي تراعي فيه نظم العلاقات الدولية والالتزام المتبادل بالقانون وخضوع السفراء لتوجيهات وزارة الخارجية والمعاملة بالمثل ، قررت الإدارة الاميركية أن تتعامل مع السودان عن طريق المبعوثين ، فهو الطريق الأوفق للتعامل إذ سيخاطب المبعوث حكومة السودان بلسان الحكومة الامريكية مباشرة ودون مراعاة لنظم العلاقات البروتوكولية ، ودون أن تكون لوزارة الخارجية السودانية عليه سلطانا ، إذ أن المبعوث لا يقدم في العادة أوراق اعتماد ، ولا يتاح للوزارة إبداء ملاحظات علي سلوكه تجاه الدولة ، ولا يتطلب وجوده شرط الإقامة ، فهو يأتي للبلاد في الوقت الذي يريد حاملا التوجيهات العليا للإدارة الاميركية النابعة من استراتيجيتها تجاه السودان ويرجع بعد قضاء المدة التي يريدها لمقابلة المسئولين في الدولة ، دون أن يترتب علي زيارته التزام تجاه الدولة أو مراعاة لقوانينها أو احترام لموروث العلاقات الدولية .

ولما رأت بقية دول الترويكا وما يسمون بأصدقاء السودان أن ألعوبة المبعوثين تؤتي أكلها في السودان سارعت بريطانيا والنرويج وفرنسا وغيرها لإرسال مبعوثيها للسودان إلي المدي الذي تقلصت فيه مهام السفراء من تلك الدول و انخرطوا في خدمة المبعوثين بدلا عن التمسك بأدبيات العمل الدبلوماسي. وانهمر سيل المرافقين للمبعوثين وفيهم الإعلاميون والخبراء ورجال المخابرات وفتحت لهم الأبواب لمقابلة المسئولين وزيارة مواقع الأحداث وعقد اللقاءات الإعلامية ، فانهالت الإتهامات علي السودان من انتهاك حقوق الإنسان والإبادة الجماعية والتطهير العرقي ، وخضع السودان لحرب اقتصادية وحرب إعلامية وحرب سياسية واتهام أمام محكمة دولية ، وكل ذلك تم خارج أطر التعامل الدولي المتعارف عليه .

اليوم قررت الولايات المتحدة الرجوع لسفارتها بالخرطوم واختيار سفير لها يتناسب مع تبدل الأحوال ، والأحوال اليوم ليست هي أحوال التسعينات . يأتي السفير جودفري للسودان وقد فصل جنوب السودان وأصبح دولة مستقلة كما سعت لذلك الولايات المتحدة باعتراف سوزان رايس ، وتقلص نفوذ السفير الامريكي تبعا لذلك . تبدلت الأحوال كذلك حول السودان في كل من أثيوبيا ومصر والسعودية وليبيا وتشاد . وخاضت أمريكا حربا في الوطن العربي والإسلامي ، وارتكبت فظائع لا مثيل لها في العراق وسوريا ، وغادرت أفغانستان بمرارة ذكرتها بحرب فيتنام في الستينات ، وتركت في قلوب الأمم المغلوبة في تلك الدول جروحا لا تندمل وشروخا لا ترفأ وذكريات تتناقلها الأجيال ، وألحقتها بمشروع الشرق الأوسط الذي قطع شوطا مقدرا في التغيير الممنهج للحياة المدنية بالترويج للإلحاد ومحاربة العقائد وتغيير المناهج وفرض سلوكيات الحرية الجنسية والعلاقة المثلية وتغيير طبيعة النوع البشري .

يصاحب تلك الأحوال هموم البحث عن مصادر الطاقة ووسائل السيطرة عليها والتحكم في الموارد والسعي للهيمنة عليها بشتي الطرق ، وهذا ما فتح الباب للتسابق الدولي للسيطرة علي أفريقيا والتدافع مع الصين وروسيا وفرنسا والاتحاد الأوربي ، ثم انفجار الأوضاع في أوروبا بعد اشتعال الحرب في أكرانيا ، وتراجع المدد الروسي للغاز في أوروبا واختلال الوضع المعيشي المعتمد علي القمح الأكراني والروسي ، وسريان العقوبات الغربية علي الروس وردة فعل الدب الروسي بتحالف دولي بديل تؤسس لنظام مصرفي ينافس العملة الأمريكية والأوربية ، ويسعي لقيام محاور عالمية جديدة تؤثر حتما علي المحور الغربي الذي ظل يتحكم في شئون العالم بلا منافس . وتواجه أوروبا وربما الولايات المتحدة آثار تضخم جامح يزداد كل يوم وتشقي به شعوب لم تعهد شقاء منذ قرون.

وقد يفهم من قدوم السفير الأمريكي الجديد أنه أتي لمنطقة نفوذ غربي ليقوم بحراستها من عبث الدب الروسي ، ومن دول أخري هرعت نحو مناطق تقاسم النفوذ ، وقد اتسع الخرق علي الراتق في دول قريبةمن هنا ، كانت لعقود تدين بالولاء والطاعة لليانكي وتأتمر بأمره بلا تردد وتفعل ما تريده الولايات المتحدة طوعا أو كرها ، فإذا بها اليوم تشق عصا الطاعة وتعلن العصيان وتتمرد تمرد الآبق ولا تخشي رفع العصا ولا إغراء الجزرة . وبالفعل لقد خرجت أيضا دول الغرب الإفريقي من عبودية الاستعمار الفرنسي وجهر ساستها بعصيان لفرنسا كانوا تكتمونه دهورا إذ ظلت تلك الدولة تمتص مواردهم بلا شفقة وتأخذ أموالهم بلا رحمة حتي استجاروا بالروس فنالوا شيئا من. الاستقلال ما ظنوا أنه سيطالهم في القريب العاجل.

ولعل السفير يدرك في هذه الهموم ما لا ندركه ، ويقابل من التحديات ما لا يجهله.

نأتي للوضع في السودان ، إذ يعلم السفير أن تغييرا قد حدث فى ٢٠١٩ ، بمساندة غربية ظاهرة للعيان ، ولعل الولايات المتحدة قد سعدت بهذا التغيير الذي أراحها من حكومة البشير ، ولعلها تسعي لاستقرار السودان الذي تستفيد قطعا من استقراره . ولعلها لا تسعي لتقسيمه كما راج في الاسافير فإن تقسيمه يشكل مهددا عظيما لمصالحها الحيوية ، وأتوقع أنها تسعي لحكومة منتخبة انتخابا شعبيا مباشرا يضفي شرعية قوية للحكومة التي تريد الولايات المتحدة إقامة علاقات استراتيجية معها ، وأن أي بديل للحكومة الشرعية المنتخبة لن يحقق لها ما تريد من مصالح حيوية ، ويمكن للسفارة أن تطمئن بأن جيل الشباب السوداني مؤهل تأهيلا عاليا لإدارة الدولة المدنية المنتخبة ، فهو نتاج معاهد علمية عاليةالمستوي ، ومزود بخبرات متنوعة وله قواعد شعبية تتسم بالوعي والمسئولية ، ويجب ألا تقع الحكومة الأميركية في أخطاء اختيار العناصر الرخوة التي كانت تعتمد عليها فيما مضي في المعلومات المضللة والتقارير المفبركة ، والتي تبوأ بعضها مقاعد السلطة الانتقالية اتكالا علي الاجنبي ، فرجعوا بالبلاد عقودا للوراء ولا يزالون يطمعون في عون مترخص من الحكومة الأمريكية ، فقد استبان من التجربة في السنوات الثلاث أنهم أعجز من أن يعودوا بفائدة لمن أرسلهم ، وتجريب المجرب نوع من الفشل الذريع .

لقد أدارت الحكومات السابقة في السودان حوارا مفيدا مع المؤسسات الأمريكية في الكونجرس والخارجية ومراكز صنع القرار ، قام بها البرلمان السوداني ووزارة الخارجية ومسئولون كثر ، وهي حوارات ليس فيها اتجاه لخضوع أو استجابة لضغوط أو طمع في مغريات ، وإنما طابعها الندية والموضوعية والمصالح المشتركة والتعاون المثمر ، وإن البناء علي ما ورد في ذلك الحوار يوفر الوقت ويقود إلي النتائج المرجوة .

إن القراءة للتحولات الجارية في العالم مفيدة للكل ، فنحن نطمع في عالم يغادر الفظائع الماضية إلي عالم يسوده العدل والتفاهم والنأي عن الهيمنة التي تغيب شموسها اليوم ، والسودان ليس سلعة للبيع في السوق الروسي أو الأمريكي وهو دولة تعيش علي عز الفقر ولا ترضي بذل الغني ، ونرجو أن تتفهم الدول الغربية جميعها أن الاحترام بديل للاحتقار وأن الحوار بديل للإملاء وأن الحرية بديل للاستبداد وأن صداقة الشعوب أفضل من سخرة العملاء ، وأن الله هو الباقي وما سواه يزول وإن طال الزمن .

اترك رد