نحن في حاجه ملحة جدا لأن نسأل أنفسنا سؤالا مهما في هذه المرحلة وهو علي الرغم من حدوث ثورات هدفت الي التغيير وآخرها ثورة ديسمبر لماذا لم يتحقق التغيير الإيجابي الحقيقي الذي ينتظم كافة جوانب حياة السودانيين (سياسة واجتماع واقتصاد وثقافة)؟
الإجابة علي هذا السؤال وإن كانت مؤلمة وتنكأ بعض الجراح وقد لا تعجب الأحزاب السياسية وأتباعها والحركات المسلحة ولكن طرحها واجب وضروري إن أردنا تحقيق غايات التغيير الحقيقي لا إزاحة حزب وإبداله بآخر أو عزل حكومة والإتيان بحكومة أخري أو تغيير أشخاص بأشخاص آخرين .
أنا في إعتقادي وعلي الرغم من أن هنالك معوقات خارجية للتغيير إلا أن العائق الأكبر هو داخلي يتمثل في هشاشة الفرد السوداني والحزب السوداني والنظام الإجتماعي السوداني والمثقف السوداني .
صحيح أن بعض الدول لا تريد للسودان أن يستقر وأن حدث تغيير مفاجئا لنظام حكم معين دون ارادتهم فإنهم يسارعون للسيطرة عليه ويدعمون سرا وعلانية مسارات الفوضي حتي لا يحدث التغيير الحقيقي الذي من أجله قامت ثورة الشعب ولكن مع ذلك كله فإنهم لولا ضعف بنيتنا السياسية والاجتماعية ماكان لهم أن يجدوا موطئ قدم في شأننا الداخلي.
وأنا هنا أود أن أشير إلي بعض معوقات التغيير من وجهة نظري وبلغة بسيطة وشرح بسيط وواضح لعلي أفتح بابا لنقاش جاد وبناء يمكن أن نصل من خلاله لموضع الداء وكيفية إيجاد الترياق الناجع وسأختصر ذلك بطريقة غير مخلة في النقاط التالية:
* من البديهي أننا نعلم أن التغيير في أي بلد تخطط له قيادات وطنية واعيه ومؤهله وتملك إرادة وطنية خالصة وصادقه ولكن في حالتنا السودانية نجد أن قيادات التغيير يرتمون دائما في حضن الخارج ويتشتتون في إنتماءاتهم لمحاوره المتعددة ظنا منهم في إيجاد الدعم وتثبيت قواعد وأركان نظام مابعد الثورات
فيجدون أنفسهم بوعي أو دون وعي منهم بأنهم ينفذون مشاريع أجنبية غريبة وبعيدة عن أحلام وآلام وحاجات وإرادة الشعب السوداني ومشروعه الوطني الذي ينبغي أن يكون لاحظتم عندما أتت ثورة ديسمبر هرب كثير من الاسلاميين إلي تركيا كحاضنة وحامية بدل الإحتماء واللجوء إلي الشعب والصبر علي أذاه ودفع ثمن وتكاليف التغيير وكذلك فعل حمدوك وكثير من وزرائه ومستشاريه قبل و بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر بالذهاب إلي حيث كانوا قبل الثورة بدل الصبر والنضال مع الشعب وبين الشعب حتي يتحقق التغيير المنشود .
* جبن النخب والمثقفاتيه عن المواجهة المباشرة والإحتكاك بالمجتمع والتعاطي مع قضايا التغيير بصبر واحتمال وتحمل تبعات وتكاليف ذلك مهما تطلب الأمر ولكننا في حالة السودان نجد نشاط النخب محصور في المركز ويتمثل في محفل أو محفلين طوال العام ويؤم هذه المحافل جمهور من الصفوة المعتادة علي حضور مثل هكذا أنشطة وهؤلاء بالطبع ليسوا المستهدفون وحدهم في مسار عملية التغيير فهم لا يتجاوزون بضع آلاف من تعداد شعب تجاوز ال٤٠مليون .
أو يتخفون خلف الميديا ووسائطها الحديثة بدل التجول في القري والبوادي والفرقان حاملين رسائل التغيير فغالب الشعب لا تتوفر لديه هواتف ذكيه ولا شبكة إنترنت قوية وإن وجدت ربما لا يعتبر شحن باقة الانترنت أولوية أهم من قوت اليوم وجرعة الدواء لمريض وإن توفر الهاتف الذكي وشبكة الانترنت بالله عليكم أن تتأملوا نماذج دعاة التغيير المنتشرين في الكلوب هاوس والفيسبوك وغيرها من الوسائط هم أنفسهم يمثلون أحد أكبر عوائق التغيير الحقيقي في السودان لأنها نماذج مشوهة فكريا مأزومة وموتورة نفسيا عديمة الموهبة ضيقة الأفق في نظرتها للقضية الوطنية .
*الهروب إلي البندقية : مع تقديري الكامل واحترامي لحملة السلاح طوال تاريخنا السياسي إلا أنني أعتقد أن البندقية أسهل الطرق رغم تكاليفها الباهظة والتي بموجبها فقد السودان خيرة شبابه وقياداته فبدل أن يتحمل القادة ثمن دعوتهم إلي التغيير كأفراد ويصبرون علي أذي السلطة فيصبحوا نموذجا يحتذي فإنهم يأخذون معهم الآلاف من البسطاء لمحارق الحروب وإن كانت مبررة إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة الأوفق والأنجع والتاريخ أثبت ذلك فعسكرة قضية الجنوب لم تأتي إلا بانفصال الجنوب وكل الاتفاقيات اللاحقة في مسارات التفاوض مع نظام المركز القابض لم تثمر غير الكراسي والحال والمآل كما هو لم يتغير شئ ولذلك أري أن تبشر هذه الحركات بمشروعها الوطني السلمي وتفتح دورها في الأقاليم والمحليات والقري وتراهن علي وعي الشعب بمشاريعها في التغيير بدل رهان الكراسي . وأنا في هذه الزاويه أسأل أين دبجو والسيسي وابوقرده وغيرهم وأين جيوشهم الجراره بالطبع هم يسيرون لوحدهم الآن دون سند جماهيري ولا حتي عسكري هاهم يتسولون منابر نخب المركز فقط بغرض الظهور ومحاولات يائسه لإثبات أنهم موجودين لأنهم راهنوا علي الكرسي وضاع المشروع وضاع سند المواطن الذي كان مبرر حمل السلاح لأجله .
* غياب المشروع الوطني الاستراتيجي الشامل المتفاوض حوله والمشاور فيه أهل السودان في حواضرهم وبواديهم المتفق عليه .
*ترك أمر التغيير في يد قلة لا تملك المشروع ولا أدوات التغيير المواكبة ولا القدرة علي الوحدة ولا المرونة وتقبل الآخرين من شركاء الوطن .
*عدم وجود القيادة المجمع عليها التي تتمتع بكاريزما عالية في الشارع فللأسف كل القيادات التي أراها اليوم إما صنعها الإعلام والمال أو صنعها أتباع وقطيع من المريدين الذين (لا يهشوا ولا ينشوا) أو رفعتها روافع جهوية وقبلية.
في اعتقادي أن القيادة المتمكنة من التغيير لا تتطلب أخلاق الأنبياء ولكن قليل من الوطنية والنأي عن التخندق حول فكرة الحزب الواحد والفكرة الواحده فلا غاندي كان نبيا ولا كان أتباعه حواريون وصحابه ولا مانديلا ولا بول كيغامي كانوا رسلا يوحي إليهم المطلوب من صفات يتصف بها القائد المطلوب هي التجرد من الأنا (الذات)والأنا (القبيله)والأنا(الحزب) والأنا (الطائفة) والأنا(الجهة) وتمثل نحن (السودانيون).
* في الحقيقة أي تغيير حقيقي يجب أن تكون خلفه قيادة رائدة وأحزاب راشده ومواطن واعي وهنا يحضرني سؤال مهم وهو لماذا لا يثق السودانيون في الأحزاب السياسية بالطبع الإجابة تتمثل في الآتي:
1/غربة المنشأ وغياب المشاريع الوطنيه وإن وجدت مشاريع فإنها لا تلامس القضايا الأساسية في حياة الناس ولا يبشر بها ولا تطرح للعامه .
2/الفشل المتكرر في اختبارات السلطة
3/الانغلاق حتي علي مستوي العضوية والنشاط في صفوة ونخبة معينة بعيدا عن المجتمع التقليدي الذي يمثل الغالب الأعظم من السودانيين.
4/الإعتماد علي الجانب النظري فقط في التعاطي مع العملية السياسية والاجتماعية دون إتباع القول بالعمل فمثلا كل أحزابنا السياسية السودانية لها أمانات وسكرتاريات رياضية وثقافية وتعليمية وصحية ولكن لا توجد لديهم مساهمات عملية في كل الجوانب أعلاه ،الشئ الطبيعي والمفترض أن تكون هنالك نماذج عملية في الثقافه والاقتصاد والرياضه والتعليم حتي تنضج الفكرة النظرية وتكتمل جوانب النقص فيها من خلال الاختبار العملي وعندما تتمكن الأحزاب من السلطة تكون الفكرة علي المستويين النظري والعملي في أجمل و أكمل مستويات النضج.
للأحزاب جيوش جراره من الأطباء المسيسون في الأمانات والسكرتاريات الطبيه ولكنهم لا يغيثون ملهوفا ولا يعالجون مريضا ذو فاقة مجانا ولا يوفرون جرعة دواء لطفل وإن حدث من ذلك شئ فإن الميديا ستضج بالصور والبطولات متاجرة وكسبا رخيصا.
هذه الأحزاب تتعامل مع مؤسسات الدولة كمختبر ومع المواطن (كالذي يتعلم الحجامه في قفا اليتامي)كأن مؤسسات الدولة والمواطن مكان لتعلم السياسة والاقتصاد والثقافة والصحة لا مكان لتطبيق المشاريع الناجحة الناضجة والمجربة علي أيدي قيادات مؤهلة ومتمرسه.
أعتقد أنه لا قيمة لحزب يملك جيوش من الرأسماليين الأغنياء وجيوش من موظفي المنظمات الدولية أصحاب الرواتب الدولاريه وأقرب جيران دور ذلك الحزب ينامون جوعي وربما لا يسمح حتي لطفل عطشان في صيف الخرطوم الغائظ بدخول الدار لشرب جرعة ماء بارد أو حتي الاستراحة تحت ظل جدران الدار .
*التغيير الحقيقي هو ليس تغيير الأنظمة الحاكمة فقط فقد جربنا تغيير الحكام كثيرا لذلك علي الأحزاب أن تتجه لبناء ذاتها ومراجعة مشاريعها وتجريبها وتأهيل قياداتهاوأن تكف عن الهرولة نحو الكراسي قبل أن تتمكن من احداث التغيير الحقيقي في بنية المجتمع ووعيه واستعداده ليكون في غالبه مجتمعا موحدا في دفعه لعملية التغيير حاضنا لها ومدافعا عنها متجاوزا لإنتماءاته الضيقة متقبلا لبعضه البعض وصولا لتحقيق أهداف البناء والتنمية في المجالات المختلفة وعلي الرغم من صعوبة هذا الأمر في الوقت الحالي إلا أننا سننقش كل يوم علي جدار الوعي ولو حرفا واحدا علي أمل أن يتحقق حلم التغيير المنشود ولن نمل أبدا والله المستعان.
فتح الرحمن يوسف سيدأحمد – باريس