فى مثل هذا اليوم قبل عشرين عاماً رحل إنسان من طراز فريد، ولد فى قرية تنزع نحو شمال السودان وتربى فى حاضرة الشرق كسلا، نشأ فى اسرة مستورةالحال ولكنه لم يكن يشبه أحداً فى بيئته إذ لا تخطئ العين سمات القيادة المُلهمة فيه كرزيماه إن شئت، كان أول متاح له فى صباه وشبابه الباكر جماعة انصار السنة التى استجابت للهيب الاسلام الذى كان يشتعل فى الصدور على مدى ساحة عالم المسلمين، نبض الدين المضيع وقومه المقهورين، فوجد فى حماسة تلك الجماعة ما لبى شيئاً من اشواقه تلك ولكن سرعان ما حمل اشرعته وذهب نحو افق ارحب، ليكون عضواً فى الحركة الاسلامية الحديثة التى كانت تغزو مدارس الطلاب ومعاهدهم باطروحة تبدو اشمل من خطاب انصار السنة وخطاب يبدو أشد حداثة وأكثر سياسة، ولقيه اول ما لقيه هتاف ثورة اكتوبر ومظاهراتها وهو ما يزال طالباً متدرباً فى معهد معلمى المدارس الابتدائية. وعندما دخل الى جامعة الخرطوم فى أول العقد السبعين من القرن الماضى كان قد قضى ثمانية اعوام فى مهنة التدريس والتى ظل يقول عنها الى حين وفاته إنها مهنة احبها، ولا عجب فهو معلم بالميلاد خلق ليعلم وليقود. وعندما واتته الفرصة وتبوأ مقعد رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم كانت احلامه اكبر من طموحات تنظيمه وخطاه اسرع من خطة حركته، وكم كان محظوظاً عندما وجد قائداً ربما أشد حكمة منه ولكنه أكثر مضاءً، خيب خوفه من أن اطلاق سراح الشيخ ربما عطل ثورته التى يعد لها بكل ما يملك ولا يرضى أن يعود منها الا وقد اسقط النميرى وحكمه، وياله من حلم خطير يومئذ وحالم.
هو ولا ريب المؤلف الثانى لخطة الحركة الاسلامية السودانية نحو التمكين، أو هو ال Co-author، وهو دون ريب خليفة الشيخ الذى حسمت له معركة القيادة المعلقة منذ اكتوبر ١٩٩٦٤، ولكن للمرة الثانية كان طموحه اكبر فى حركة السودان، وبدل من عامين فى اميركا تتيح له أن يعرف العالم ويتوج خبرته المحلية بتجربة عالمية قضى عشرين عاماً قبل أن يعود نائباً فى الجمعية التأسيسية وتلك قصة عجيبة ربما فصلتها فى مكان آخر، ولكن بدلاً أن يحمل تلك الصفة زعيم الحركة الاسلامية السودانية اصبح وصفه أفضل زعيم لم نحظ به.
صحيح أن غالب التحديث الذى طرأ وطور حركة المسلمين فى الدنيا الجديدة كان من عمق تفكيره وسعة افقه، ولكن خلاصة تجربته على خاصة مسيرته الشخصية كانت غير سعيدة ولخصها فى كلمتين على طريقته الفريدة فى التلخيص ومقدرته الفذة فى السخرية.
مات احمد عثمان فى الثانى والعشرين من سبتمبر عام ٢٠٠٢ ونقف اليوم فى الذكرى العشرين ما نزال حزانى على مضيه المسرع كما كانت هى حياته.