تقرير: محمد جمال قندول
ثمة حالة من العبث قادت الى واقع سياسي مأزوم، وبعد اربعة اعوام من سقوط نظام الانقاذ لا تبدو الامور على النحو الذي كان يتمناه السودانيون، فكانت من حصاد التغيير حالة التجاذب والتشاكس الحاد بين القوى المدنية التي مثلت حاضنة لحكومة الانتقال برئاسة عبد الله حمدوك مع المكون العسكري، الامر الذي افضى في نهاية المطاف لما عرفت باجراءات الخامس والعشرين من اكتوبر من العام قبل الماضي التي شهدت فض الشراكة بين المكونين بقرارات من رئيس مجلس السيادة الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان، الامر الذي أدخل البلاد في ازمة سياسية معقدة.
والمتابع للجهود المبذولة لنزع فتيل الازمة والتوصل لحل سياسي يقود لاستئناف الانتقال المتعثر وتشكيل الحكومة المدنية، يلتمس الدور الاقليمي والدولي المتمدد في الملف السوداني، وهو أمر قاد لتساؤلات مهمة عن امكانية نجاح الايادي الخارجية في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، ام ان لها اسهامات قد تفضي لتوسيع شقة الخلاف وهو ما نحاول ان نجيب عنه هنا.
الانفتاح على المجتمع الإقليمي والدولي
ولا تخفى على أحد الادوار التي تضطلع بها دول الاقليم على غرار مصر والامارات والسعودية واثيوبيا وجنوب السودان في محاولات لايجاد موطئ قدم لاستقرار البلاد، وايضاً الحضور الامريكي البريطاني النرويجي مقابل تراجع ادوار روسيا والصين في الشأن السوداني.
وجود الايادي الخارجية في الملف السوداني الذي بدا سمة بائنة منذ رحيل نظام البشر تباينت حوله ردود الافعال حتى على مستوى الشارع السوداني ما بين رافض لها ومؤيد لها، ولكن هنالك تساؤل ايضاً مهم يتقافز الى الذهن بين الحين والآخر، وهو ما مدى فرص نجاح المجتمع الدولي والاقليمي في التوافق على حد ادنى بخصوص الملف السوداني، ام ان تقاطعات مصالح الدول الاقليمية والدولية الكبرى قد تضر بالدولة السودانية وتسهم في تعقيد الاوضاع؟
وثمة مقارنات بدأت تترسخ في الوجدان السوداني غير مبشرة حيال قبولهم التدخل او الدعم الدولي، فمثلاً تجد في مؤانسات الشباب والشيب في الاحياء والاماكن العامة عقد مقاربات عن تيسر الاحوال الاقتصادية في عهد البشير رغم الحصار، مقابل سوء الاوضاع المادية للسودانيين رغم سقوط نظام البشير، ومعالم انهيار الاقتصاد الذي بدا واضحاً رغم الانفتاح على المجتمع الدولي والاقليمي بشكل كبير.
حضور واشنطون
وعقب رحيل البشير بدا واضحاً ان واشنطون كانت تتابع المشهد السياسي ولكنها تفعل مع تشاء عبر تحريك حلفائها، وهو أمر كفل لها الحضور المتوازن، غير انه ومع استفحال الاوضاع السياسية عقب اجراءات الخامس والعشرين من اكتوبر والازمة المصاحبة, آثرت الولايات المتحدة الامريكية الوجود في الملف السوداني عن قرب، حيث سارعت بتسمية جون غودفري سفيراً لها، ليتسلم مهامه كاول سفير بالخرطوم لامريكا بعد ربع قرن من الزمان، وفور مزاولة غودفري مهامه في مقرن النيلين استطاع تحريك الجمود السياسي عبر الرباعية التي تتزعمها واشنطون وتوجد فيها ابو ظبي والرياض ولندن، حيث لعبت الرباعية دوراً مهماً في ترجمة الحوارات بين المكونين العسكري والمدني وصولاً للاتفاق الاطاري، الامر الذي اظهر بصمتها مقارنة بالثلاثية التي تظل الراعية للوصول لحل للاطراف السودانية برعاية الامم المتحدة عبر بعثتها برئاسة فولكر والاتحاد الافريقي و (ايقاد).
ولعبت واشنطون ادواراً رئيسة في اسقاط نظام الانقاذ، حيث كانت صاحب القدح المعلى بضغوطها المستمرة على الخرطوم بفرض عقوبات اقتصادية اسهمت بشكل كبير في نهاية المطاف في أوضاع اقتصادية صعبة كانت ضمن اسباب ذهاب البشير، فضلاً عن التضييق الذي مارسته الولايات المتحدة على السودان في المحافل الاقليمية والدولية.
والمتابع لراهن الاحداث يلتمس بوضوح ان واشنطون ليست لديها أية رغبة في التخلي عن ريادتها في الملف السوداني، حيث دخلت بثقلها خلال الاشهر الاخيرة، وبدأت تضغط على الفرقاء بشكل مباشر، بعد ان كانت توكل وتوزع الادوار لحلفائها التاريخيين في المنطقة.
دعم مجموعة على حساب أخرى
ودول الترويكا بدورها ظلت تشكل حضوراً في المشهد السوداني تنامي أخيراً بدعمها العملية السياسية الجارية بين العسكريين والمدنيين، حيث تضغط بقوة لفرض الاتفاق الاطاري على ارض الواقع رغم الرفض الواسع الذي تحظى به العملية السياسية بشكلها الحالي، حيث تقتصر حضور القوى المدنية على مجموعة المركزي وبعض الاطراف على غرار الشعبي والاتحادي وجماعة انصار السنة، وهو ما افضى الى تنامي الرفض خاصة من قبل الكتلة الديمقراطية ورفض قيادات المركزي فتح الاتفاق الاطاري واضافة فاعلين جدد، حيث انهم ظلوا يشيرون الى ان سبب رفضهم عدم انجرافهم لاغراق الاطاري، ولكنهم اشاروا الى انه بالامكان استيعاب حركتي جبريل ومناوي بموجب استحقاقات السلام، وهو ما يرفضه الاخيران ويتمسكان بمشاركة الكتلة ككل.
وثمة عدم رضاء من كيانات وتحالفات وقوى سياسية عديدة عن تعامل المجتمع الدولي مع الازمة السياسية، حيث ان البعض يذهب الى ان التدخلات الدولية على غرار نهج الوسيط الاممي فولكر وانحيازه لمجموعة على حساب اخرى من اسباب تفاقم الازمة.
وظل قيادات الكتلة الديمقراطية يكيلون الانتقادات لما سموه ازدواجية المعايير التي تلازم نظرة القوى الكبرى في ما يتعلق بالسودان وازمته الراهنة وآخرهم القيادي في الكتلة مصطفى تمبور في مقابلة نشرت امس في (الانتباهة).
ودول الترويكا ظلت ترسل مؤشرات اقرب للانحياز لمجموعة الاتفاق الاطاري، وذلك عبر تمسكهم بشكل الحل السياسي الجاري، الامر الذي أثار حالة عدم رضاء اتجاه اعضاء الترويكا، حيث ان مواقفهم ككتلة تتضارب مع توجهات كل دولة على حدة في التعامل مع الملف السوداني الشائك.
ورش القاهرة
وبدا واضحاً ان القاهرة كانت معزولة في بواكير الفترة الانتقالية، حيث كانت بعيدة نوعاً ما عن المشهد، كأنما تؤثر ان تتابع مجريات التغيير وتعمل على تحليله وتقييم الاوضاع، ولكن أخيراً استطاعت مصر ان تعود لواجهة الفعل السياسي الداخلي بورشها التي عقدتها بالقاهرة وشارك فيها اكثر من (75) فصيلاً.
وثمة من يرى ان القاهرة كانت معزولة بفعل اطراف دولية ترى ان الحضور المصري في الملف السوداني سيرجح كفة الادارة المصرية بحكم معرفتها ببواطن الامور في الخرطوم، فضلاً عن علاقاتها المتميزة مع عدد كبير من فصائل العمل السياسي في البلاد، ولا ننسى ان القاهرة اشتهرت كعاصمة سياسية للمعارضة السودانية في حقب مختلفة، حيث استضافت فصائل المعارضة من الجنوبيين والتجمع الوطني الديمقراطي وحركات دارفور وسهلت حركتهم السياسية والاعلامية، وهو ما جعلها تحتكم الى استثمار قديم في المعارضة السودانية التي تحولت خلال الفترة الاخيرة لحكام، وبعد اربعة اعوام من سقوط نظام الانقاذ يبدو ان القوى الاقليمية والدولية عازمة على عدم الاصطدام او التقاطعات في الملف السوداني، وذلك بتقسيم الادوار، حيث يلتمس القارئ ذلك من توجه ابو ظبي للاستثمار في السودان وابتعادها نوعاً ما عن المشهد السياسي وكذلك الرياض وواشنطون، فيما يبدو ان الجانب الامني بدأ اقرب لتل أبيب.
التطبيع
ورغم ان علاقات السودان الخارجية خلال السنوات الاخيرة شهدت انفتاحاً كبيراً، حيث لم يعد سراً التطبيع مع تل ابيب وزيارة وزير خارجية اسرائيل للخرطوم، ومن المرجح كذلك مشاركة الخرطوم في القمة الابراهيمية خلال مارس الجاري، الا ان السودان في المقابل شهد تدخلات خارجية كبيرة في الشأن السوداني.
ويذهب مراقبون الى ان الازمة المستفحلة ازدات تعقيداً بفعل الحضور الاقليمي والدولي في الشأن السوداني، الأمر الذي خلف تقاطعات قادت الى اصطفاف دول ومحاور دولية خلف تكتلات سياسية، وليس بعيداً استقواء مجموعة المركزي بالترويكا ودول غربية في سبيل حمايتها للاتفاق الإطاري، فيما تحظى الكتلة الديمقراطية وتحالفات اخرى برعاية مصرية، الأمر الذي قاد الى تقاطع المصالح الاقليمية والدولية في الملف السوداني بشكل بائن.
ويرى الخبير والمتخصص في الشؤون الدولية د. عبد الكريم حسين ان حل الأزمة السياسية السودانية ينبغي ان يكون محلياً، وذلك لضمان ان تكون الحلول ناجعة ومستدامة، والا ترتكز او ترتهن للتدخل الاقليمي او الدولي، خاصة ان الايادي الخارجية قد تفضي الى تقاطعات في المصالح الأمر الذي يعقد الازمة.
ويبدو من واقع التحركات الخارجية في الازمة السودانية ان الخرطوم قد اصبحت مركزاً للصراع الدولي بين امريكا وحلفائها وروسيا والصين من جانب آخر، ويقرأ ذلك في سياق زيارة وزير الخارجية الروسي للخرطوم قبيل ثلاثة اسابيع، واعقب ذلك بساعات وصول ستة مبعوثين دوليين.
واتسمت العلاقات مع موسكو وبكين بالازدهار خلال عهد الانقاذ، حيث انهما شكلا حليفين استراتيجيين للخرطوم في المحافل الدولية، في حين أن هذه العلاقات شهدت تراجعاً كبيراً بعد ذهاب نظام البشير