أرنست خوري
مسرّبو الوثائق الأمنية السرية فئات. منهم مدمن مغامرت وطالب شهرة ومال. منهم مَن يرى نفسه مناضلاً في خدمة ما يعتبره واجباً سياسياً أخلاقياً إنسانياً يحتّم عليه فضح “الشر”. والنضال الأخلاقي السياسي ذاك لا يوفر حصانة لحامليه دائماً، فقد ينتهي الأمر بهؤلاء أحياناً في الارتماء بأحضان شرّ أكبر من المُراد تعريته، كحال المواطن الأميركي سابقاً، الروسي حالياً، إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالات استخبارية أميركية الذي سرّب عام 2013 آلاف الوثائق الأمنية حول تجسّس أميركا على حكومات حليفة وعلى مواطنيها. وما هي إلا أيام بعد تسليمه “الفلاش ميموري” لمجموعة من الصحافيين في هونغ كونغ حتى وجد الرجل نفسه لاجئاً في موسكو، ثم مقيماً فيها، فحاملاً للجنسية الروسية مع حماية أمنية ووظيفة مرموقة. هذا نوع من المسرّبين المصابين بالحَوَل السياسي ــ الأخلاقي، إذ يقتصر فعل الفضح عندهم على مساوئ أميركا وسياساتها الخارجية حصراً، وهي كثيرة على كل حال. أما بلدانٍ كروسيا والصين، حيث الصحافة الحرة تساوي العمالة للخارج وخيانة للوطن، فإنما لا ذكر لها في نضال هذه الفئة من المسرّبين. لا شرّ خارج أميركا التي قضت محكمتها العليا عام 1971 بأنه لا يحق لإدارة الرئيس حينها ريتشارد نيكسون منع الصحف من نشر أوراق وزارة الدفاع الأميركية المسرّبة عن حرب فيتنام، بينما حيث يقيم الرجل اليوم، أي جنّة روسيا الاتحادية، يكفي أن تكتب طفلة على ورقة بيضاء “لا للحرب” (على أوكرانيا)، حتى يُسجن والدها وتُزَجّ هي في دار إعادة تأهيل، أي مركز غسل دماغ خاص بالأطفال، مثلما حصل مع ماشا موسكاليف (12 عاماً) ووالدها ألكسي.
الأسترالي جوليان أسانج نموذج محيّر من المسرّبين، هو وموقعه “ويكيليكس” ومئات آلاف الوثائق التي نشرها عن حربي العراق وأفغانستان، وقد وفرها لهم الجندي السابق في الجيش الأميركي برادلي مانينغ (تشلسي مانينغ بعد تحويل جنسه إلى أنثى). جلّ أو معظم اهتمام أسانج وموقعه ينصبّ أيضاً على فضح أميركا. يندر أن تجد له موقفاً ضد خصوم الولايات المتحدة ممن لم يتمكن ربما من الهرب إلى أحد بلدانهم لتفادي ترحيله إلى أميركا حيث تنتظره المحاكمة. أساء التقدير عندما ظنّ أن أستراليا أو السويد أو بريطانيا ستمنع ترحيله.
نموذج ثالث من المسرّبين، إطار صحافي محترف يُدعى “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، مذهلٌ في الطريقة التي اشتغل بها بدءاً من عام 2016 على فضح 214,488 شركة مالية تعتاش على التهرب الضريبي وغسل الأموال وارتكاب بقية قذارات الجرائم المالية، وذلك من خلال 11.5 مليون وثيقة (وثائق بنما). أما النموذج الرابع للمسربين، فنحن في صدد التعرف إليه منذ يوم الخميس الماضي مع نشر الوثائق المسرّبة للاستخبارات الأميركية التي تتعلق خصوصاً بالغزو الروسي لأوكرانيا، وتشمل أيضاً الشرق الأوسط وأفريقيا والصين، وأخطر ما فيها أنها حديثة جداً، عمرها يتفاوت بين شهرين وبضعة أيام، وتقدم معلومات عن أمور مخطط لها أن تحصل قريباً جداً. المسرّب أو المسرّبون قرّروا النشر في أماكن يصعب أن تخطر على البال، مثل منصة “ديسكورد” للدردشة المنتشرة بين هواة ألعاب الفيديو وقنوات على “يوتيوب” مغمورة، وغالباً ما تكون مخصصة للألعاب نفسها، كذلك موقع 4Chan للدردشة أيضاً غالباً في مواضيع غير سياسية، فضلاً عن حسابات روسية على منصة تليغرام (أولها اسمه Donbass Devushka) وحسابات هامشية على “تويتر” أخيراً.
أميركا تحت وقع صدمة التسريبات، وهي تحقق لاكتشاف هوية المسرّب(ين). روسيا متهم أول، وواضح حجم الخرق بالموظفين وضعف الحماية السيبرانية في أميركا. لكن يجدر السؤال: لماذا لا تصيب التسريبات الأمنية السياسية آخرين من صنف روسيا والصين؟ ربما، وفقط ربما، لأن هؤلاء لم يتركوا شيئاً يثير الدهشة في حال تسريبه، فالقمع والتعذيب والقتل تكاد تُبثّ على التلفزيونات مباشرة، والمجاهرة بإدمان الهيمنة والحروب مصدر فخر وطني، ولن يأتي أي تسريب بجديد يُذكر في هذا المجال.
العربي الجديد