“نحن ننقص ولا نزيد لأن الظروف التي أفرزت هذه الفئة من حروب وغزو انتهت”، كان هذا هو العنوان الذي كتبه شيخ خدّام الحرم النبوي التاريخيين، وأحد أبرز بيوت المدينة المنورة المعروفين بـ “الأغوات”.
فهذه السلالة المعروفة في مجتمع المدينة لم يتبقَّ منها سوى 3 أشخاص فقط بعد رحيل رابعهم قبل نحو عام، فباتوا على مشارف أن يصبحوا جزءًا من التاريخ بعد أن تخطّى عمر أصغرهم حاجز الـ 90 سنة، ما يجعل من الضروري العودة إلى قراءة السطر الأول قبل أن يكتب العمر سطرهم الأخير.
وكانت وكالة شؤون المسجد النبوي نعت الأربعاء 13 يوليو (تموز)، الآغا حبيب محمد العفري أحد أقدم أغوات المسجد النبوي الذي كرس حياته لخدمة المسجد والحجرة النبوية حيث قبر النبي محمد وأبي بكر وعمر، وأقيمت صلاة الجنازة عليه في الموقع الذي ظل ملازماً له طوال حياته بعد صلاة المغرب، وتم دفنه بمقبرة “بقيع الغرقد” التي تضم رفات خير أصحاب النبي وآله، ومشاهير أئمة المسلمين القدامى والمحدثين.
المراجع حول أيامهم الأولى في المدينة كثيرة ومتضادة، بخاصة أنهم عُرفوا بخدمتهم للكعبة في مكة المكرمة في عهد حكم معاوية بن أبي سفيان، بحسب الباحث عبد الرحمن الأنصاري في كتاب “تحفة المحبين والأصحاب”.
إلا أن الدراسات الراجحة أشارت إلى أن من جلبهم إلى المدينة النبوية هو السلطان نور الدين زنكي في 558 للهجرة (1162 للميلاد)، ولا يبدو أنه استحسن فكرة إرسال الخدام بكثرة إليها في بادئ الأمر، لذا لم يستقدم سوى 12 “آغا”، حتى تزايدوا شيئاً فشيئاً وصولاً إلى مئات “الأغوات” ليكونوا مجتمعاً وأسرة كبيرة، من دون سبب واضح. الروايات اتفقت على أن “الأغوات” هم طائفة من الأفارقة في الغالب الذين عرف عنهم عدم الزواج أو الإنجاب، نتيجة لتعطّل جهازهم التناسلي بسبب خصيهم في قديم الزمان، إما لغزو اقتحم بلادهم أو لمعتقدات خاطئة.
وعن تلك المعتقدات، يشير الباحث في التاريخ المكي والمدني منصور الدعجاني إلى أن “الأغوات فقدوا ذكورتهم بسبب الاستعمار في بلاد الحبشة والسودان حتى لا يتكاثروا، إلا أن هناك منهم من قام أهلهم بهذا العمل لبيعهم للأثرياء أو إهدائهم كهبة للحرمين”، نظراً إلى كثرة المخصيين ممن كانوا يعملون في خدمة المناطق المقدسة لكونهم أكثر زهداً بعد تجريدهم من الشهوات.
أسطورة الحلم تنتهي بتعيين “الأغوات”
ظهرت أسطورة تروي أن حلماً للسلطان نور الدين زنكي قد يكون وراء استحداث خدام للمسجد النبوي في عهده، إذ يُروى أنه رأى النبي محمد في إحدى الليالي المظلمة والنوم العميق، مستنجداً به وهو يشير إلى رجلين أشقرين طويلَي القامة، إلا أن الحلم لم يدُم طويلاً قبل أن يفزع السلطان، كما روى الكتاب المخطوط فلاح الفلاح لخير الدين إلياس المدني.
والكتاب المخطوط الذي يحفظ تاريخ المدينة المنورة زراعياً واجتماعياً لما قبل 300 عام، لفت إلى أنه على الرغم من انقطاع الحلم في مرّته الأولى، إلا أنه تكرر على السلطان مرتين إضافيتين، ما دفعه إلى استدعاء أحد وزرائه مستشيراً إياه عن القرار الصائب والتفسير وراء الحلم، الذي أشار إليه بضرورة سفره إلى المدينة التي تضم قبر النبي محمد للتحقق مما رأى.
ونزل السلطان إلى المدينة بحثاً عن أجوبة وراء تكرار الرؤية، وفي محاولة لتأمل كل الوجوه من سكان المدينة، أخبرهم بأنه سيخرج صدقات ومساعدات للسكان، شرط أن يأتي كل فرد لاستلام حصته، وبدأ الناس بالتوافد والسلطان بالتأمل والبحث في وجوههم عمن تنطبق عليهم أوصاف الأشقرين.
شيخ الأغوات السابق سعيد آدم عمر (المصور عادل القريشي)
شيخ الأغوات السابق سعيد آدم عمر (المصور عادل القريشي)
ويبدو أن كل الملامح لم تأخذه إلى أبعد من الحلم، ما دفعه إلى سؤال أهل المدينة في ما إذا كان يوجد من لم يستلِم الصدقة، ليعرف أن هناك شخصين غريبين نزلوا المدينة قبل فترة، فطلبهما للقائه، لتتطابق الأوصاف معهما تماماً، فأمر السلطان بمراقبتهما.
ويضيف فلاح الفلاح في قصته أن “السلطان أمر بمداهمة منزلهما وتفتيشه ليجد نفقاً كانا قد شرعا في حفره تخطيطاً للوصول إلى الحجرة النبوية، وبعد التحقيق معهما اعترفا بأنهما نصارى، وحكم نور الدين بقتلهما”.
وسرعان ما حفر السلطان خندقاً وصبّ فيه الرصاص رغبة في حماية الحجرة من تكرار الحادثة، إلا أن الرصاص لم يكن كافياً للحماية في نظره، ما دفعه إلى إرسال الخدام للمسجد النبوي لحماية الحجرة وخدمة المسجد.
ومع أن مصادر مختلفة نقلت الرواية ذاتها، إلا أن بعض الروايات يرجح قصصاً مختلفة للشخصيات والمواقف، إذ يذكر حسن طاهر، المدير التنفيذي لمتحف دار المدينة، أن “هناك روايات تذهب إلى أن معاوية بن أبي سفيان هو أول من استخدمهم ووضع خدماً من العبيد للكعبة، وأول من اتخذ الخصيان لخدمة الكعبة هو يزيد بن معاوية”.
وعلى الرغم من الاختلاف في التفاصيل، أجمعت الروايات تقريباً على كون خدام الحرمين بدأوا عبيداً، وانتهوا إلى تعيين وإرسال الخصيان دون سواهم لخدمة الضريح النبوي.
الزواج للاستقرار
واستمر اختيار السلاطين لهم من دون غيرهم للخدمة الدينية “لكونهم أطهر وأنزه وأكثر براء وأكثر فراغاً من الأشغال، فلا أهل ولا ولد يشتغل بهم وهم أبعد من دنس الجنابة ومباشرة النساء”، كما يسرد الرحالة المغربي عبد الله العياشي في “ماء الموائد”.
لكن اللافت أن “الأغوات” اعتادوا شراء الجواري، إلا أن إلغاء الإماءة دفعهم إلى الزواج، كي ترعاه الزوجة عند مرضه أو حاجته لذلك، ويقال لها عند عقد النكاح، “أملكت عليك مكحلة من دون مرود، فهي لديها مكحلة أما المرود فهو لديه لكنه معطل”، كما تشير دراسة نشرتها جامعة أم القرى.
وكانت هذه الفئة تعمد إلى التعدد، فكانت لهم زوجة واثنتان وثلاث في بعض الحالات، حتى إن بعضهم امتلكوا جواري أفريقيات، يتخذونهنّ للتمتع بهنّ في غير الجماع، كما يشير العياشي في الكتاب ذاته.
الآغا أحمد علي ياسين (المصور عادل القريشي)
الآغا أحمد علي ياسين (المصور عادل القريشي)
وعن المتعة المقصودة، تذهب الدراسات إلى أنها متعة الاستقرار وشعور العائلة، إذ كانوا غالباً ما يتزوجون الأرامل والمطلقات ممن أنجبن أولاداً من أزواجهن السابقين، ليؤسس “الأغا” أسرته رغماً عن الإشكالية الجسدية، كما يؤكد المهتم والباحث في تاريخ المدينة المنورة حسان طاهر، “يتزوجون ليس لأجل العلاقات المعروفة والمتعة الزوجية، إنما من أجل مراعاة شؤونهم وحاجاتهم”.
وعند زواج خدام الحرمين من جنسهم، فهو يحضرها إلى السعودية مع أولادها إن كان لها أولاد على كفالته بتأشيرة خدم، من دون أن يتم إعطاؤهم الجنسية السعودية، ويطلق “الأغوات” على زوجاتهم، وينادونها بالخادمة.
شروط الانضمام لم تحرم الآسيويين
كان السلاطين المتعاقبون على حكم الأراضي الحجازية يخضعون الخدم لفحص دقيق قبل ضمّهم للعمل في المسجدين، إذ يشير الدعجاني إلى أن “من طرق وصول الجدد منهم، تكليف الحكام للأغوات العاملين، البحث عن زملاء لائقين للخدمة في المسجدين”.
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد في ذلك الزمان بأن أحد أهم شروط الانضمام إلى العمل كـ “آغا” أن يكون أفريقياً، إلا أن حسان طاهر يوضح أن “هناك شرطين أساسيين للأغوات، أن يكون مخصياً ويتمتع بصحة جيدة، ويقبل بتطبيق النظام عليه من الالتزام وتأدية الواجبات وطاعة الأوامر”، وتشير الدراسات إلى أن حفظ القرآن كان شرطاً أيضاً للترشيح.
وفي العهد السعودي، عندما يجد “الآغا” مرشحاً للانضمام، يخبر به شيخهم ليرفع بدوره للمقام السامي الذي يكتب لوزير الحج بالأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط، ليتم تعيينهم وإعطاؤهم الجنسية السعودية.
الآغا علي بوديا ابراهيم (المصور عادل القريشي)
الآغا علي بوديا ابراهيم (المصور عادل القريشي)
وليتم التعيين بشكل رسمي، يؤخذ الأمر إلى شيخ “الأغوات” الذي يقوم بإحضارهم عبر سفارات السعودية في بلادهم، وقبل مباشرة “الآغا” الجديد للعمل، يكشف عليه الشيخ كشفاً طبياً ليتأكد من حالته، “فلا بدّ من أن يكون رجلاً ليست لديه شهوة، ثم يعرّف بنظامهم وعاداتهم المعهودة ليرفع الشيخ ملفه إلى الوزارة ويباشر أعماله”، كما جاء في حوار سالم فريد يمني عبر مجلة اليمامة.
ونظراً إلى أصول “الأغوات” الأفريقية، فلم يكن يتم تعيين الجدد من بلاد مختلفة، إلا أن الحج رمى بـ “آغا” جديد في المجموعة، بعد أن جاء إلى مكة رجل ماليزي الأصل تنطبق عليه الشروط الشرعية والجسدية، وطلب الالتحاق بهم بإلحاح، ولم يكُن من شيخ “الأغوات” حينها إلا أن يوافق على الطلب لكن من دون منحه الجنسية السعودية كما جرت العادة.
واستمر الماليزي في الخدمة مدة قاربت ست سنوات، فضّل بعدها العودة إلى بلاده وإعفائه من الخدمة، مبرراً موقفه أن “جميع الأغوات في الحرم حبشيون وأنا الوحيد الماليزي بينهم، ولا أعرف ما يقولون”، بحسب ما أورده سالم فريد يمني، المشرف على شؤون “الأغوات” ووكيلهم الشرعي سابقاً عبر منشور في مجلة اليمامة.
مهمات حصرية ونظام دقيق
وعرفت هذه الشريحة بمهمات تصل إلى 40 مهمة لا يقوم بها أحد غيرهم، بداية بغسل وتنظيف الحجرة النبوية الواقعة شرق المسجد النبوي، بماء الورد ونهاية بتعطيرها بالمسك والعنبر.
ويضيف الدعجاني، “تشمل المهمات الموكلة لخدام الحرمين حفظ المسجد نهاراً والمبيت فيه وحراسته وإضاءته ليلاً، وتفريق الرجال والنساء بعضهم عن بعض، وتغيير كسوة قبر النبي سنوياً”.
ويمتلكون سلّماً وظيفياً أقرب ما يكون إلى الرتب العسكرية، فيكون منهم “شيخ للحرم ونائب له، وشيخ للأغوات، والأمين، والمشدي، ويليهم خبزي ونصف خبزي، ثم شيخ بطال، وولد عمل، وأخيراً المتفرقة”.
الأغوات إمام حسين زينو (المصور عادل القريشي)
الآغا إمام حسين زينو (المصور عادل القريشي)
ويبدو أن الخبرة هي الشرط الأساس للتنصيب على المراتب الوظيفية، ويقول حسان طاهر، “يصبح الأقدم هو شيخ الأغوات وهو الناظر على أوقافهم والمسؤول الأول عن سير عملهم في الحرمين، وإذا توفي تتم ترقية النقيب ليكون شيخاً عليهم والأمين نقيباً وهكذا”.
ويشير العياشي في “ماء الموائد” إلى أنه “إذا خلت وظيفة من الوظائف بالموت أو أي سبب آخر، فإنها تملأ من الرتبة التي تليها”، إلا أن الزمن الطويل كان له تأثيره في سلّم رتب “الأغوات” ومهماتهم لتصبح واجباتهم تشريفية ومراعية لأوضاعهم الصحية.
ويقول المؤرخ والباحث في شؤون المدينة حسان طاهر، “كانوا يقومون بعدد من الوظائف المهمة داخل الحرمين المكي والنبوي، وصلت إلى أكثر من 40 مهمة، وتحولت مع الوقت إلى مهمات تشريفية مثل استقبال الملك والوفود الرسمية وتنظيف الحجرة النبوية”.
الدولة السعودية لم تغيّر شيئاً
وعن مهماتهم في العصر الحالي تحت إشراف الدولة السعودية، يقول الدعجاني، “منحتهم الدولة الجنسية السعودية ويتبعون وظيفياً شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، لتتولّى شؤونهم وتصرف مستحقاتهم ورواتبهم وأي إكراميات تمنح لهم وتدير الأوقاف الموقوفة لهم”.
وكان قد صدر مرسوم ملكي في عهد الملك عبد العزيز 1927، جاء فيه، “بخصوص أغوات الحرمين، لا يحق لأحد أن يعترض عليهم أو يتدخل في شؤونهم”، ويشير الدعجاني إلى أنه لحق هذا المرسوم نظام خاص بهم وقرار لمجلس الوزراء في 1971، ينص على أن يبقى “الأغوات” على عاداتهم وتقاليدهم.
الإندبندنت العربية