نيالا.. مدينة من الفوضى والفساد والدمار
تقرير أفق جديد _ اسفير نيوز
(أودع أطفالي يوميا الصباح عندما أخرج بحثا عن الرزق في المدينة التي تبدلت ملامحها تماما، أنظر إليهم، وإلى الشوارع، إلى باب منزلنا، إلى كل شيء تربطني به صلة لأن من الوارد جدا أن تكون هذه نظرتي الأخيرة. كل لحظة تمر عليك في هذه المدينة فهي عمر جديد كتب لك، فإن نجوت من طيران الجيش قد لا تنجو من رصاص منسوبي الدعم السريع الذين يمكن أن يقتلوك لأتفه الأسباب، فنحن نعيش حرفيا في دولة اللا قانون).. هكذا حدثنا حمدان صالح الذي يعيش في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور وعروس مدائن الإقليم والمدينة التجارية الأكبر فيه إلى ما قبل اندلاع حرب 15 أبريل.
نهب وسرقة واختطاف ومداهمات، ومطاردة لرجال الأعمال، هذا حال مدينة نيالا الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع منذ 26 أكتوبر الماضي. وهكذا يعيش سكانها تحت رحمة عناصر «الدعم السريع» الذين يشنون بين الحين والآخر حملات اعتقالات تعسفية ضد المواطنين بذريعة إنهم «أب بُلدة» أي ينتمون الى الجيش الحكومي ثم يبتزونهُم بدفع المال مقابل إطلاق سراحهم حسب ما أكده محمد آدم إبراهيم «اسم مستعار» الذي خرج قبل يومين من معتقلات قوات الدعم السريع بعدما دفع ذووه مبلغ 300 ألف جنيه مقابل إطلاق سراحه.
بينما يضيف حمدان صالح – وأيضا هو اسم مستعار لأب يعول خمسة أطفال وكان موظفا في إحدى الدوائر الحكومية – المدينة تبدلت تماما، نحن نعيش حرفيا خلف ستار حديدي محكم، عدنا إلى القرون الوسطى ولا أحد يهتم، أودع أولادي، الطرقات، الشوارع وكل شيء تربطني به صلة، لأن أي لحظة تمر عليك دون أن تصيبك رصاصة من جنود الدعم السريع أو يحولك طيران الجيش إلى أشلاء فتلك معجزة.
نعيش حياتنا هكذا كيفما اتفق، نخرج الصباح للعمل كي ما نوفر قوت أطفالنا. ويردف: أنا خريج جامعي، وكنت موظفا حكوميا ولكن الآن لا توجد خدمة مدنية ولا مرتبات. عملت في كل شيء “عتال”، عامل مزرعة، أي عمل، تجده، وهذه ليست العقبة ولكن العقبة الكبرى هي الانعدام الكامل للأمن، المدينة الآن في حالة فوضى شاملة لا رقيب ولا حسيب للقوات العسكرية المنتشرة فيها.
وبحسب مصادر محلية فإن قوات الدعم السريع لها اليد العليا والسلطة المطلقة لكنها لا تستخدم تلك السلطة لحماية السكان وتيسير الحياة لهم، بل اتخذتها مطية لإرعابهم وإرهابهم، تمارس التفتيش بلا مبرر وابتزاز الناس وسرقتهم، بينما تمارس فئة «المستنفرين» التابعين لها انتهاكات جسيمة ضد المواطنين على مرأى من قوة حماية المدنيين التي شكلتها الإدارة المدنية المعينة من قبل قائد قوات الدعم السريع ولكنها بلا سلطات حقيقية.
تبدل ملامح
حينما يجول بصرك في أرجاء المدينة، فثمة شيء واحد مميز ستراهُ «آثار الرصاص» في المنازل، والمباني التي بدأت بالتآكل واحدة تلو الأخرى في مشهدٍ جهنمي، كل شيء تهدم، كل معلم جميل في المدينة تحول إلى خراب، وبين كل شارع وشارع آثار رماد لحيواتٍ مسلوبة ومبعثرة.
في السادس والعشرين من أكتوبر العام الماضي سيطرت قوات الدعم السريع على الفرقة السادسة مشاةً في نيالا، وارتكبت على الفور انتهاكات كبيرة منها النهب، والاغتيالات، والاعتقالات ولم تتوقف منذ استيلائها على المدينة حتى اليوم، ورزح مواطنو المدينة تحت وطأة انتهاكاتها بينما فر الآلاف من منازلهم إلى داخل وخارج البلاد.
سلاح على الطريق
تشهد المدينة منذ ذلك التاريخ تزايدًا مضطردًا في الانفلات الأمني الذي يتمثل في حوادث القتل بغرض النهب، ونهب المواطنين في الطرقات، والمحال التجارية، والمنازل والأسواق. وأشار مواطنو المدينة أن معظم منفذي حوادث الانفلات الأمني يرتدون أزياء عسكرية، وبعضهم يرتدي “الكدمول” في إشارة لقوات الدعم السريع.
شبح الموت يحوم فوق رؤوس الجميع، والخوف يسيطر عليهم تماما، لا أحد يستطيع التحدث إليك إلا همساً، فكلمة واحدة ستفقدك حياتك. هكذا يحدثنا صالح حمدان، ويقول “بعد إن اتخذنا العديد من الإجراءات التحوطية، الناس تشكي من الوشايات، فهناك العديد من المدنيين باتوا يعملون كمخبرين لقوات الدعم السريع والمستنفرين. لا نثق ببعضنا البعض، يمكنك أن تشك في شقيقك، ابنك أو أبيك، ولا تدري إن كان هو من سيشي بك باعتبارك “أبلدة” أو متعاون مع الأبلدة أم لا”. ويمضي صالح حمدان قائلا “يا عزيزي هذه ليست مدينتنا التي نعرف ولا هولاء جيراننا الذين عشنا معهم منذ الصغر، قد تبدل كل شيء”.
في نهاية أكتوبر الماضى هاجم مسلحون على متن دراجة نارية تاجرا كبيرا كان عائدا من منطقة «الصافية» محلية السلام 27 كيلو مترا جنوب نيالا، وأمروه بتسيلم المبلغ الذي في حوزته، لكنه رفض وقاومهم، ليطلقوا عليه وابلًا من الرصاص، ثم أخذوا النقود وغادروا.
الكثير من الحوادث المشابهة باتت من يوميات المدينة رغم أن قوات الدعم السريع تقول بشكل متكرر إنها عازمة على حسم التفلتات الأمنية، ولكن لا خطوات على أرض الواقع فكل يوم هم أسوأ من الثاني.
وأكد أحد التُجار مشترطا عدم ذكر اسمه ولا حتى الإشارة اليه بلقب مستعار للحديث معانا أن هناك حالات كثيرة من عمليات النهب تتم في المساء، حيث يستهدف أفراد قوات الدعم السريع التُجار بشكل كبير.
وذكر إنه في 10 نوفمبر الحالي تعرض لعملية نهب 2 مليار تحت تهديد السلاح، حينما أوقفه اثنان من جنود قوات الدعم السريع مُتهمين إياه بأنه «أب بُلدة» وطلبوا منه الذهاب إلى مكتب الاستخبارات، لكنهم تواروا عن الأنظار فجأة بعد أن سلبوه ماله، قبل أن يطلقوا كمية من الأعيرة النارية.
وحسب إفادات مواطني نيالا، فقد أصبحت المدينة محكومة بما يشبه منطق «العصابات»، حيث تنهب عناصر الدعم السريع والمتعاونون معهم المواطنين والتُجار دون أن تحرك الإدارة المدينة التابعة لها ساكِنًا، بينما يدفع المواطنون ثمن آثار الحرب قهرًا.