الصادق الرزيقي يكتب عن رحيل الطيب مصطفى

0
طيب الطيب الذي عرفت .. الطيب الذي أعرف
اما قبل
الصادق الرزيقي
هو ليس علي الله بعزيز ، لكن تتحشرج الكلمات .. و يحتبس البيان ، ما أفدح الخطب الجلل ، فهل يطل تساؤل مماثل لما سأله محمد الفيتوري في ملحمته الوصفية عن إستشهاد السلطان تاج الدين سلطان دار مساليت و هو يهزم الجيش الفرنسي في معركة دروتي 1910م ، قبل أن تغدر به رصاصات صدئات أطلقها عليه جنود الجيش الغازي المندحر ، فسقط السلطان الشهيد مضرجاً بدمائه و نصره ، فبعد خمسة و خمسين عاماً كتب الفيتوري ملمحته ، و ثار سؤاله الجنوني ( أو تذهب حتي أنت …؟) و لم يقل ابداً أن السلطان قد مات ، إنما قال في مشهد الموت في القصيدة ( فرأينا تاج الدين يبدو و كأن قد مات ..) ..
هذا الرجل .. الطيب كالنفح .. الشامخ العزيز كما النجم ، القوي الصابر الصادق كالوعد ، يبدو و كأن قد مات ..! فمثله لا يذهب من الدنيا هكذا أو يموت كما يشتهي خصومه .. له في كل إتجاه معركة حامية مع الباطل ، و له في ظهر كل خائن و رعديد طعنة ، و عند كل زاوية يشمخ رمحه و سيفه الصقيل يصهل كما تصهل الخيل المطهمة العتاق …
مثل الطيب .. لا يرحل .. و كيف يرحل .. ؟ و كلماته العرائس تدب فيها الحياة … و مواقفه القوية الصلدة العاتية تنبض و لا تخبو ، تثور و لا تهدأ ، تجول و لا تتوقف ، تمور و تثور بلا نهاية ..
قلّ أن يجود زماننا الكؤود برجل مبدئي مثله ، تتكامل عنده الصورة ، و تنتهي لديه البدايات ، و تستجلي النهايات ، فيستخلص سريعاً النتائج و يستل موقفه الناصع الساطع من بين غبش الرؤي و ضباب المواقف و رماد الطريق …
قل أن يجود الزمان بمثله …صادقاً .. قوياً .. لا تنكسر له عزيمة ، و لا تضعف له شكيمة ، لا يريح جواده في غبر المعترك، و لا يلامس سرجه ظهر الارض .. رجلٌ مثل الصقر إذا ما إنقض ، السيل إذا ما هدر ، حسامه مثل البرق يخترق الظلمات … ظل هكذا حتي حين يظن اعداءه و خصونه أنه يبدو و كأن قد مات ..!
يرحل .. و يغيب .. لكنه و للعجب لا يرحل … ! فمثله لا يرحل … ينتظر هناك عند الطرف الآخر ، معركته لم تنتهي بعد .. ينتصر أو سينتصر ، فألاف الاجيال التي زرع فيها هذا النوع من التحدي و التصدي و القوة و وضوح الرؤية هي التي سيحاربها أعداءه من بعده .. لذلك هو باق في كل غضبة لله داوية ، و في كل نفس حرة أبية تنافح عن دين الله و كلمته ، وتحمي حماه ، و تستعد للموقف الفاصل ..
عرفت الطيب مصطفي من علي البعد ، قبل أكثر من ثلاثين عاماً و هو في مهجره ، من خلال كلمات متفرقات يكتبهن ، و حسن سيرة و سريرة تقال عنه و تروي ، فلما قابلته في منتصف تسعينيات القرن الماضي ، وافق كل شيء عنه .. مخبره و مظهره و معدنه ، و زاد عليها من إيمانه بمبادئه ثقته المطلقة في الله المعز المذل ..
توثقت به المعرفة ، عندما بدأ يكتب في الصحف السيارة في العام 2002م ، مقالاته حول حق شمال السودان في تقرير مصيره مثلما أُعطي الجنوب الحق في تقرير مصيره من الشمال ، و كانت إتفاقية مشاكوس يومئذٍ محمصة في نار القوي الدولية و الاقليمية غُلف سُمها بدسمها ، فإستل الطيب سيفه ، و مد مقدمة رمحه الطويل في وجه الفجر الشاحب آنئذ ، كان وحده في أرض المعركة ، إلتقينا عند ميدان مقالاته ، و كنت يومها مديراً للتحرير بصحيفة ( ألوان ) يكتب مقاله ( صفحة كاملة ) فيثير النقع و الجدال ، ثم أعلن و هو في قمة رفضه لمشاكوس و بدأت حينها مفاوضات نيفاشا و رشح عنها ما رشح ، عن تكوين ( منبر السلام العادل ) … بعزيمته التي لا تفتر طاف علي جميع القوي السياسية و المهتمين بالفكر و السياسة و المدافعين عن هوية البلاد و عزتها من عسكريين و سياسيين و نشطاء و أكاديميين و رموز المجتمع و المغتربين و رجالات الطرق الصوفية و الإدارة الأهلية .
نهض منبر السلام العادل في ذلك الآوان و إلتف حوله جموع من مختلف القوي السياسية و التيارات الفكرية المختلفة الرافضة للتدخلات الغربية التي صنعت توجهات نيفاشا ، لم يكن المنبر حزباً سياسياً في بداياته كان جماعة ضغط ضم من حزب الامة يومها رئيس الحزب الحالي المكلف فضل الله برمة ناصر ، و العميد بحري (م )عبد الرحمن فرح، و المحامي اليساري غازي سليمان ، و من الإسلامين د. عبد الوهاب عثمان و غازي صلاح الدين و د.قطبي المهدي و د. بابكر عبد السلام و حريكة عز الدين و من قدامي العسكريين الفريق اول مهدي بابو نمر و الفريق ابراهيم الرشيد و العميد(م)ساتي سوركتي و من الصحفيين المرحوم محمد طه محمد احمد و من النظار وكيل ناظر الجعليين و هبناي وكيل ناظر الهدندوة و غيرهم من كل المنابت و المشارب الإجتماعية والسياسية و الشخصيات العامة .
قاد الطيب مصطفي المنبر و تشمر لنزاعاته مع السلطة و حزب المؤتمر الوطني و هو يجهر برأيه و يقود المعارضة ضد نيفاشا و خرج من المؤتمر الوطني بعد جلسة عاصفة و نقاش محتدم 2004م مع البروفيسور إبراهيم أحمد عمر الأمين العام للمؤتمر الوطني في ذلك الوقت ..
و ذات يوم .. في منتصف العام 2005م إتصل عليّ هاتفياً لنتلقي بعد توقف الصحف عن نشر مقالاته بحجة إثارتها لقضية الانفصال ربما تم توجيه الصحف بذلك … جلسنا .. طرح عليّ فكرة إصدار صحيفة الانتباهة …
تلك قصة نرويها غداً … دعواتنا أن يشمله الله برحمته التي وسعت كل شيء .

اترك رد