السفير خالد فرح يكتب.. نهر النيجر وبحر النيل: كتاب جديد للبروفيسور الأمين أبو منقة
قراءة ناقدة بقلم: د. خالد محمد فرح
Khaldoon90@hotmail.com
صدر في خواتيم العام المنصرم 2021م، كتابٌ جديد من تأليف البروفيسور الأمين أبومنقة محمد، مدير معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم سابقاً، وأستاذ اللسانيات واللغات الإفريقية بذات المعهد حالياً، بعنوان: “نهر النيجر وبحر النيل: روابط تاريخية وفكرية متجذّرة ومتجدّدة”. وقد صدر الكتاب عن دار جامعة الخرطوم للطباعة والنّشر، في 302 صفحة من القطع المتوسط.
وكان معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، بالتضامن مع منظمة طوعية اسمها: “منظمة أبناء البلد للتنمية والخدمات الشاملة”، قد أقاما احتفالا فخيماً لتدشين هذا الكتاب، جرى تنظيمه بقاعة الشارقة، جامعة الخرطوم بتاريخ 16 سبتمبر 2021م. وكان المؤلف نفسه قد تفضل مشكوراً بأن دعاني لحضور حفل التدشين، إلا أن ظروف ارتباطي بعمل رسمي مهم وملحٍّ حينئذٍ، قد حالت – مع الأسف – دون تمكني من تلبية الدعوة، وشهود تلك المناسبة العلمية الباذخة، التي شرَّفها بالحضور والمشاركة جمهور كبير، جاء في مقدمته نفرٌ كريم من كبار الأساتذة المختصين، كان على رأسهم الأستاذان الجليلان بروفيسور يوسف فضل حسن وبروفيسور مدثر عبد الرحيم.
يشتمل الكتاب على فاتحة بقلم البروفيسور حسن مكي محمد أحمد، أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا العالمية، وتقديم بقلم المرحوم البروفيسور قاسم عثمان نور، أستاذ علم الوثائق والمكتبات الذي انتقل الى جوار ربه مؤخراً، كما يضم مقدمة وعشرة فصول جاءت على النحو التالي:
• الفصل الأول: الحركة الفكرية المصاحبة للجهاد في بلاد الهوسا وقيام الخلافة الصكتية
• الفصل الثاني: الحركة المهدية في بلاد السودان الغربي (نيجيريا) والشرقي (السودان)
• الفصل الثالث: بين النيل والنيجر: ضوء جديد على شخصية الفلاني المهدوي محمد الداداري
• الفصل الرابع: الأسس الفقهية لهجرة أمير المؤمنين الطاهر الأول من صكتو
• الفصل الخامس: موقف الخلافة الصكتية من الاستعمار البريطاني النصراني
• الفصل السادس: نمط استقرار المهاجرين الفلاتة وتوطينهم في السودان
• الفصل السابع: مقاومة الأجيال الأولى في مايرنو لنظام التعليم المدرسي
• الفصل الثامن: رحلات الحج وآثارها الاجتماعية والاقتصادية في سودان وادي النيل
• الفصل التاسع: الآثار العقائدية لحركة الشيخ عثمان بن فودي في سودان وادي النيل
• الفصل العاشر: ملامح من العلاقات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين السودان ونيجيريا
وقد لخّص المؤلف نفسه طبيعة مادة هذا الكتاب، وهيكله التحريري، وفصوله، وملابسات تأليفها ونشرها مفرقة في شكل مقالات، في مظان أخرى في السابق، ثم أبان دواعي جمعها في صعيد واحد، لكي تُنشر مجتمعةً في هذا السفر، نظراً لتجانس وتواشُج موضوعاتها، وذلك إذ يقول:
يتالف هذا الكتاب من عشرة فصول، قوام كل فصل منها مقال نشر في وقت سابق في مجلة علمية أو فصل في كتاب، قمنا بمراجعته وتحديثه لغرض هذا الكتاب. وقد نشر أغلبها في مجلة “دراسات إفريقية” و”مجلة الدراسات السودانية”. ومع أن هذه الفصول العشرة جاءت تحت عناوين مختلفة، إلا أنها تتمتع بقدر كبير من التجانس وتنتهي في مصب واحد، وهو الحراك البشري بين غرب إفريقيا والسودان، والآثار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المترتبة عليه (ص2-3).
وما من شك البتة، في أنه ليس أنسب للنهوض بهذه الدراسة العلمية العميقة والجادة، التي تستهدف الكشف عن أبعاد التواصل والتداخل البشري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي بين فضائي حوضي نهر النيجر ووادي النيل قديماً وحديثاً، من مؤلف هذا الكتاب الذي نحن بصدده: البروفيسور الأمين أبومنقة. ذلك بأن البروفيسور أبومنقة يعدّ هو نفسه ثمرةً يانعة، وتجسيداً حيّاً لذلك التواصل والتداخل بين بلاد السودان الغربي وبلاد سودان وادي النيل أو السودان الشرقي، وذلك بحكم انتمائه الأُسري ضارب الجذور في كليهما معاً، فضلاً عن تأهيله المعرفي والأكاديمي الرفيع والملائم، الذي أتاح له الاطلاع على جل الآثار والأدبيات ذات الصلة بهذا الموضوع. فهو، إلى جانب إجادته للغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، فإنه يجيد كذلك لغتي الهوسا والفلفلدي ( البولارية ) إجادة تامة، هذا بالإضافة إلى أسفاره الدائبة وتواصله مع سائر الباحثين ومصادر المعرفة والمعلومات بمختلف جنسياتهم وخلفياتهم، ومراكز البحوث ومستودعات الوثائق ذات الصلة في المناطق المعنيَّة، وغيرها من دور الكتب والوثائق في شتى أنحاء العالم.
هذا، ونودُّ بعد هذا التعريف الموجز بهذا الكتاب ومؤلفه، أن ندلي بدلونا في ما عنّ لنا من بعض الملاحظات والتعليق والتعقيب والتجاوب والاستدراك، على نقاط بعينها أوردها المؤلف فيه، راجين بذلك تقديم إسهام متواضع، يكون بمثابة محاولة من جانبنا لتسليط المزيد من الضوء على طائفة من المباحث والقضايا التي أثارها، ولفت النظر إلى وجهات نظر أخرى حيال بعض منها، ربما تكون جديرة بالتأمل والاعتبار.
أول ملاحظة استوقفتنا في هذا الكتاب، هي عنوانه ذاته الذي ينم عن شيء من شاعرية ظاهرة، وخصوصاً في سياق الثقافة القولية الدارجة في السودان: “نهر النيجر وبحر النيل!”. ذلك بأن إطلاق اسم البحر على نهر النيل خاصة، علاوة على أنه مذهب لغوي عربي فصيح، هو مما درجت عليه ألسن العوام في السودان. وقد غنّى الفنان سيف الجامعة من كلمات الشاعر الراحل السفير سيد أحمد الحاردلو:
يا شجر الهشاب قوم نمشي بحر النيل!
ونحن نقلب الصفحات الأولى من هذا الكتاب أيضاً، لفت انتباهنا حرص المؤلف على رسم اسم البلد الذي سوف يُعرف لاحقا باسم “مالي” هكذا: “مَلّي” Malle. وهنا نود أن نشير إلى أن اسم هذا البلد الإفريقي العريق قد كان يُنطق بالفعل قديماً في السودان، على هذا النحو الذي رسمه به المؤلف، أي بميم مفتوحة تليها لام مشدَّدة مكسورة بعدها ياء. ومن ذلك قول الشيخ عبد الرحيم البرعي الكردفاني في قصيدته اللالوبية: “نعم الحرتو .. خُبرا الليل سروا لى درتو”:
عن قيلَ وقالوا سكتوا
أجابوا عِجَمْ مَلّي وسكتو .. الخ
وتفسير الشطر المعنيّ، هو أن هؤلاء الأولياء من فرط كشفهم وقدراتهم الخارقة، يستطيعون فهم حديث الأعاجم من أهل بلدي مَلّي وسكتُو (صكتو)، والرد عليهم. ومن المحتمل أن يكون النطق المعاصر لهذا الاسم، أي “مالي”، بإشباع فتحة الميم من “مَلّي” حتى استحالت إلى ألف ممدودة، ثم تخفيف تشديد اللام لكي تصير لاماً واحدة مكسورة، هو من تأثير الطريقة الفرنسية في رسم هذا الاسم ونطقه تبعاً لذلك.
في معرض حديثه عن طائفة ممن أسماهم العرب الأشراف الذين قدموا الى مدينة كَنُو المعروفة بشمال نيجيريا واستوطنوها وامتزجوا بأهلها الأصليين من الهوسا قبل بضعة قرون، وصف المؤلف تلك المجموعة بقوله: “هنالك الآن حي وسط مدينة كنو القديمة يعرف بـ “حي الأشراف”، من المرجّح أن بيوتاته الكبيرة هم أحفاد هؤلاء العرب، إلا أنهم بمرور الزمن قد “تهوّسوا” تماماً من حيث سحنتهم ولغتهم وثقافتهم” (ص13، هامش رقم 8). والشاهد هو استخدامه للفعل “تهوسوا”، خصوصاً في سياقه الثقافي والأنثربولوجي. وهو لعمري فعل ربما يذكرنا نوعاً ما بحرص السير هارولد مكمايكل ومن اقتفى أثره في وصفهم بدأب لأفراد قبائل ما يسمى بـ “المجموعة الجعلية” بأنهم “نوبة مستعربين”، في حين أن مكمايكل ومن سار على نهجه، لم يحرصوا في المقابل، على وصف الكنوز مثلاً بأنهم عرب “متنوِّبون”، وهم بالفعل كذلك كما تؤكد المصادر التاريخية التي تنسبهم إلى قبيلة ربيعة، ولكنهم “تنوَّبوا” في كل شيء، مثلما “تهوَّس” أشراف كَنُو المُشار إليهم آنفا.
في صفحة ١٦ من الكتاب، يشير المؤلف إلى:
عالمين مرموقين عاشا خارج بلاد الهوسا، وكانا على صلات متينة بعلمائها، وتركا بصماتهما على الحركة الفكرية فيها. وهذان العالمان هما – بحسب الكاتب – الشيخ محمد البرناوي والشيخ محمد الولي الباقرمي، اللذان ذاع صيتهما خلال العقد الثاني من القرن الثامن عشر. وقد انشغل الأخير، أي محمد الولي، في منظوماته ببعض القضايا المتعلقة بالتوحيد، ساعياً إلى دحض ادعاءات بعض فلاسفة القرون الوسطى بأن الخلق دائم مع دوام الخالق.
أما من أثبت المؤلف اسمه بأنه الشيخ محمد الولي الباقرمي، فإننا قد لاحظنا أن معظم المصادر التي تعرضت لسيرته، قد ذكرت أن اسمه هو الشيخ محمد الوالي الباقرمي، بألف بعد الواو في لقبه، وليس الولي، وأنه قد توفي في حوالي عام ١٧١٠م، مما يجعل صيته قد ذاع ترجيحاً في حياته، وقبل بضعة عقود ربما من التاريخ الذي ذكره له المؤلف، أي العقد الثاني من القرن الثامن عشر كما قال. ذلك بأن الدكتورة دوريت فان دالِن، الباحثة الهولندية التي توفرت مؤخراً على دراسة مستفيضة حول سيرة وتراث الشيخ محمد الوالي بن سليمان الفولاني الباقرمي، هذا العالم الإفريقي المسلم ذائع الصيت في عصره، تقدر أنه قد ولد تخميناً فيما بين عامي ١٦٣٥ و ١٦٤٥م، وأنه تتلمذ لبعض الوقت بالقاهرة على عالم الحديث الشهير، وملتقى أسانيد جل علماء الحديث الكبار بمصر والحجاز والشام في القرن الثامن عشر، الشيخ محمد بن علاء الدين البابلي المتوفى في عام ١٦٦٦م.
وفي صفحة ١٧ يورد المؤلف بيت الشعر الذي ألَّفه الشيخ عثمان دان فوديو ١٧٥٤ – ١٨١٧م في مدح شيخه جبريل بن عمر الطارقي، وهو قوله:
إن قيلَ فيّ بحُسنِ الظنّ ما قيلا
فموجةٌ أنا من أمواجِ جبريلا
وما نود أن نعقّب به على ذلك، هو أن البروفيسور عبد الله حمدنا الله كان قد استبصر تشابهاً، بل تناصّاً بين ما قاله الشيخ عثمان في حق شيخه جبريل بن عمر، وبين ما كان قد سبقه اليه في السودان بنحو قرنين كاملين، الشيخ محمد بن عيسى سوار الذهب في التسرية شعراً عن صديقه الشيخ إدريس بن محمد الأرباب 1507 – 1651م، في وجه بعض الانتقادات وأنواع الهجوم التي تعرض إليها هذا الأخير من قبل بعض معاصريه:
والله لو كان بين الناس جبريلا
لا بدّ فيه من قال ومن قيلا
على أننا نلاحظ بالرغم من ذلك، بوناً شاسعاً نوعاً ما، بين ما رمى إليه الشيخ سوار الذهب في البيت الذي قصد به التسرية عن صديقه الشيخ إدريس بن محمد الأرباب، وبين معنى بيت الشيخ عثمان بن فودى، الذي إنما جاء على سبيل التواضع فقط ، وكراهة أن تُنسب إليه – ولو تلميحاً – منزلة مساوية، أو أرفع من منزلة شيخه جبريل بن عمر الطارقي.
وفي معرض حديثه في الفصل الثاني من الكتاب، عن الجذور الفكرية والحركية المشتركة للدعوة المهدية في بلاد السودان الغربي (نيجيريا) والشرقي (السودان) على التوالي، يأخذ المؤلف على المؤرخين والباحثين عموماً، عدم التفاتهم على نحو كافٍ إلى مظاهر الفكر المهدوي في السودان الغربي وصلته بمهدية السودان. ويقول في ذلك ما نصه: “لا نجد دراسة مستفيضة لهذا الموضوع حتى باللغة الإنجليزية سوى كتابات المرحوم بروفسور محمد أحمد الحاج (في السودان)، ومقالات الحاج غربة سعيد بن حياتو، ورسالة بكالاريوس لابنته أسماء (في نيجيريا) (ص35، هامش رقم 2).
وبالطبع فإن أشهر آثار المرحوم بروفيسور محمد أحمد الحاج الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي رسالته العلمية بعنوان: The Mahdist Tradition in Northern Nigeria ، التي حصل بموجبها على درجة الدكتوراه من جامعة زاريا بنيجيريا في عام ١٩٧٣م، والتي قام الدكتور الحاج سالم مصطفى بترجمتها إلى اللغة العربية، وقد صدرت هذا النسخة المترجمة مؤخراً لحسن الحظ، عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان.
وفي ذات السياق، يوحي المؤلف ضمناً بأنه يشاطر البروفيسور ود الحاج الاعتقاد في أن تكون مهدية الإمام محمد أحمد بن عبد الله ١٨٤٣ – ١٨٨٥م، قد جاءته بوحي وتأثير ما من فكرة المهدية التي كان يمور بها مجمل فضاء بلاد السودان الأوسط والغربي، على الأقل منذ عهد تأسيس الخلافة الصكتية على يد الشيخ عثمان بن فودي في عام ١٨٠٤م. ويعمد الكاتب إلى إبراز دور محوري يوحي ضمناً أيضاً، بإسناده إلى الخليفة عبد الله محمد تور شين في هذا الخصوص، وذلك إذ يقول في ذات الصدد نقلاً عن رسالة محمد أحمد الحاج: “وقبل وفاته، أهاب تور شين بابنه بأن يجتهد في البحث عن المهدي الذي آن وقت ظهوره. وهكذا استمر عبد الله في البحث إلى أن التقى بمحمد أحمد بن عبد الله في الحلاوين (المسلمية ) في عام ١٨٨١، وبعد هذا اللقاء مباشرة، أعلن محمد أحمد مهديته.
ولكن البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم، يرفض هذه الفرضية ويردها على نحو قاطع حين يقول في كتابه: الحركة الفكرية في المهدية ما نصه:
أما القول الذي ردده محمد أحمد الحاج كثيراً، بأنّ مهدية السودان كان مصدرها حركة دان فوديو، باعتبار أن أقوال فوديو وجماعته عن المهدية قد انتشرت في دارفور، وأن عبد الله، خليفة المهدي فيما بعد، قام بنقلها إلى المهدي، ومن ثم قام المهدي بدعوته، فزعمٌ لا يسنده دليل، ولا مكان له إلا في خيال صاحبه.
والذي نميل إليه نحن أيضاً، أن الينابيع الفكرية والمصادر المعرفية لفكرة المهدي والمهدية لم تكن في يوم من الأيام قاصرة على بلاد السودان الأوسط والغربي، حتى تكون هي ورموزها، مصادر الوحي والإلهام الوحيدة بها، وإنما كانت فكرة شائعة انتظمت العالم الإسلامي من أقصى مشرقه إلى أقصى مغربه، فضلاً عن أنها قد كانت متاحة للجميع، وظلت تظهر في كتابات وآراء عدد من العلماء، خصوصاً المتصوفة منهم مشرقاً ومغرباً، ومن أبرزهم الشيخ محي الدين بن عربي في كتابه “عنقاء مغرب”، وإلى عهد العلامة محمد مرتضى الزبيدي ١٧٣٢ – ١٧٩١م، الذي أورد الجبرتي في تاريخه أنه قد كتب رسالة إلى أحمد باشا الجزار والي عكّا، زيَّن له فيها أنه – أي الجزار – هو المهدي المنتظر.
فالراجح عندنا إذاً، أن الإمام محمد أحمد المهدي بما عُرف عنه من سعة اطلاع وتبحر في علوم الدين والتصوف، وعكوف دائب على مصادرها الرائجة في عصره، قد ساورته فكرة المهدية بصورة مستقلة تماماً، ولم يكن في حاجة إلى وحي من خليفته لاحقاً عبد الله التعايشي، ولا من غيره في هذا الخصوص.
وبمناسبة الحديث عن العلامة محمد مرتضى الزبيدي مؤلف معجم “تاج العروس من جواهر القاموس”، وقد ذكرنا اهتمامه بمسألة المهدي المنتظر آنفا، فإن كلاً من الإمام المهدي والشيخ عثمان بن فودي يشتركان معاً في سند علمي واحد يمر بذات العالم الشهير؛ ذلك بأنّ الزبيدي، هو أستاذ الشيخ جبريل بن عمر الطارقي الذي أخذ عنه الشيخ عثمان بن فودي، في حين أن الإمام المهدي قد تتلمذ في وقت ما في مطلع شبابه،على يد الشيخ الأمين الصويلح، الذي هو بدوره حفيد الشيخ أحمد بن عيسى الأنصاري ١٧٣٧ – ١٨٢٦م، الذي درس على المرتضى الزبيدي بالقاهرة جملة من العلوم، وحرر له إجازة مكتوبة بذلك.
في الفصل الثالث من هذا الكتاب، يوقفنا المؤلف على شخصية غامضة ومثيرة للانتباه في ذات الوقت، لعبت دوراً مهماً في تاريخ المهدية، ألا وهي شخصية الشيخ محمد الداداري ١٧٩٥ – ١٨٨٥م، وهو رجل من قبيلة الفولاني ومن أتباع الشيخ عثمان بن فودي، وكان من المهتمين بمسألة المهدية، ومن المعتقدين في فكرة أن المهدي سيظهر في بلاد سودان وادي النيل، لذلك فقد هاجر من دياره ببلاد السودان الغربي إلى السودان الشرقي بإيعاز من الشيخ عثمان ين فودي وخلفائه، بأمل أن يشهد ذلك الحدث العظيم. ومما يكشفه لنا هذا الفصل، أنَّ الشيخ الداداري المذكور، كان له الدور الأكبر والقول الفصل في اختيار الخليفة عبدالله التعايشي، وتوطيد أركان منصبه خليفة للإمام المهدي، بُعيد انتقال المهدي إلى الرفيق الأعلى في يونيو ١٨٨٥م، مما يعكس ما كان يحظى به الشيخ الداداري الفولاني من احترام وتقدير من عامة الأنصار (ص81-96).
ولعل شخصية الشيخ محمد الداداري هذه تذكرنا ببضعة شخصيات فريدة وطارئة على أرض السودان، تهيأ لها أن حظيت بظهور لافت حقاً، سلباً أو إيجاباً في تاريخ السودان الوسيط والحديث، مما يؤهلها لأن تكون سيرها مواضيع طريفة للبحث الأكاديمي المثير، منها شخصية الشيخ الداداري هذا الذي وصف المؤلف (وشركاؤه في المقال المعني) دوره في الحركة المهدية، بأنه:
يلقي ضوءاً على ما يمكن تسميته بالعلاقات الإسلامية الممتدة عبر بلاد السودان، ويحل بعض التعقيدات المتعلقة بهذه العلاقات … فلو فهم دور الداداري بدقة في الحركة المهدية، لربما فتح ذلك الباب أمام مزيد من البحوث في هذا الجانب المهمل نسبياً، وأن المزيد من البحوث حول شخصية محمد الداداري قد تدعو في النهاية إلى إعادة النظر في مجمل الحركة المهدية وفي طبيعتها (92-93).
ونعتقد أن هنالك من هذه الفئة من الأفراد الطارئين على مشهد التاريخ السوداني: زوانة كاشف،أحد قواد المماليك الذين فروا من وجه إسماعيل باشا من دنقلا إلى دارفور عشية غزوه السودان في أبريل ١٨٢٠م، وهو ذلك الرجل الذي حاول الاستيلاء على عرش سلطنة دارفور، ولكن انكشف أمره وأُعدم. يضاف إليهما محمد البلالي، أو البلالاوي الذي ظهر ظهوراً مثيراً ومفاجئاً في جنوب دارفور وبحر الغزال في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر، مدفوعاً إما بطموح شخصي، أو بتدبير ومساندة قوة ما لإرباك المشهد، متزامناً بصفة خاصة مع صعود نجم الزبير باشا رحمة وجنوده البازتقر، وانتصارهم لاحقا في عام ١٨٧٤م على جيش السلطان إبراهيم قرض، سلطان دارفور في معركة “منواشي”. ومن قبل هؤلاء جميعاً، شخصية التاجر والقائد المغامر، عبدالله بن عبد الحميد العمري، الذي أقام إمارة عربية خالصة في أرض السودان في صحراء العتمور بين النيل والبحر الأحمر في القرن الثالث الهجري، الموافق للقرن التاسع الميلادي، في ظل دولة أحمد بن طولون بمصر، وبإيعاز ودعم مؤكد من قبلها. فكل واحد من هؤلاء، قمين بأن يفرد بدراسة منفصلة خاصة به في تقديرنا.
في سياق مجادلته للتدليل على أثر الإشعاع الثقافي والعلمي لمنطقة شمال وغرب إفريقيا على سودان وادي النيل، يذكر المؤلف في صفحة ٢٣٧ الشيخ عيسى ولد كنو، تلميذ الشيخ محمد ولد عيسى سوار الذهب، ملمحاً إلى أنَّ أصله من مدينة كنو المعروفة بشمال نيحيريا، ولكن ود ضيف الله ينص حرفياً في الواقع، على أن عيسى ولد كنو من الحضور. ولا غضاضة في ذلك في نظرنا، فإنه يجوز أن يكون الشيخ عيسى ذاك، قد سافر إلى بلاد الهوسا في زمان ما، وأقام بها لمدة في مدينة كنو فنُسب إليها، وليس ذلك بمستبعد. بيد أننا نرى أن المؤلف قد أبعد النُجعة عندما افترض في ذات الصفحة، أن الشيخ المضوي بن محمد محمد أكداوي الذي شرح متني “السنوسية” و “الجزرية”، ربما كان أصله من مدينة “أكدال” الحالية بالمغرب (ص 237). هذا، بينما الافتراض الأمثل أن يكون ذلك الشيخ منسوباً ترجيحاً لا قطعاً، إلى “أكد” شرق السودان بضم الهمزة والكاف معاً، علما بأن “عرب أُكُد” الذين يقطنون بنواحي كسلا والتاكا، مذكورون بهذا الاسم نفسه في طبقات ولد ضيف الله.
ونأتي أخيراً الى الفصل العاشر والأخير من هذا السفر الممتع والمفيد، وهو الفصل الذي اختار له المؤلف العنوان: “ملامح من العلاقات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين السودان ونيجيريا”. وودت لو أنه جعله هكذا: “ملامح من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التاريخية والمعاصرة بين السودان ونيجيريا”، ذلك بأن هذا الفصل يركز بالفعل على العلاقات بين البلدين في التاريخين الحديث والمعاصر.
في صفحة ٢٨٠، يستعرض الكاتب بعض مظاهر التبادل والتأثير والتأثر الثقافي، فيذكر من ذلك موسيقى “الكيتا” النيجيرية كأداة استنفار وحشد جماهيري ذات أصل نيجيري موجودة في البلدين، وكذلك انتشار “الأقاشى” في السودان، كطريقة معيَّنة لشواء اللحم من ثقافة الهوسا. وهنا لعلنا سوف نغدو كمن يستبضع التمر إلى هجر كما يقول المثل، عندما نشير ونحن في حضرة الأمين أبومنقة، إلى بضعة ألفاظ هوساوية أخرى كما بلغنا، وجدت طريقها هي الأخرى إلى معجم عربية السودان الدارجة. منها كما قيل لنا، كلمة “مايقوما ” وهو نوع من العطور، وكذلك اسم متكرر لأحياء سكنية بعينها في العاصمة السودانية وبعض المدن الأخرى. فقد قيل إن مايقوما معناها: ذو العشرة أو صاحب العشرة بلسان الهوسا . فلعل أول من سكن بها كان يمتلك عشر قطع سكنية مثلاً. وكذلك كلمة “دكوة” بمعنى عجينة الفول السوداني، وبلغنا أنها تُنطق: “دكوا” في الهوساوية، وهنالك بالتاكيد كلمات أخرى هوساوية الأصل في العامية السودانية، المؤلف أدرى بها منا.
وبعد، فهذه سياحة عجلى، وددنا أن نصطحب معنا فيها القارىء الكريم في عوالم هذا السفر الماتع، الذي سوف يجد مكانه اللائق به بكل تأكيد، كمرجع لا غنى عنه في دراسة مظاهر التواصل الحميم بين سودان وادي النيل وبين بلاد السودان الأوسط والغربي عبر مختلف الحقب.
• خالد محمد فرح/ 2022م ولغرض التوثيق ايضا، فان هذا المقال نفسه منشور بالعدد رقم 26 من مجلة الدراسات السودانية اصدار معهد الدراسات الافريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم.