رغيف العالم الملوث بالسياسة

0

بقلم.. كوليت بهنا

تتشابك السلوكيات التربوية الدينية-الاجتماعية في العديد من المجتمعات العربية والعالمية، حيث تحرص الأسر على تعليم صغارها معنى تقدير نعمة الطعام بشكل عام، والخبز بشكل خاص لما له من “قدسية” ومباركة. ومن العادات المتوارثة التي احتفظت بها العديد من المجتمعات المشرقية، أن تقوم العروس بإلصاق عجينة خبز فوق الباب الخارجي لمنزل الزوجية قبل دخولها إليه كدلالة لمعاني الخصب والوفرة و”خميرة الذرية المباركة” التي تحملها في ذاتها كامرأة.

كما أن العديد من هذه المجتمعات ما زالت تحتفظ بعادات راسخة مثل توزيع الخبز على الفقراء بغرض “النذور” الدينية، أو تجفيف البائت منه لأوقات العسر التي يشح خلالها الزاد، أو تجميعه علفا للدواجن أو رميه للطيور وكسب “الثواب” في إطعامها، واعتبار دوس كسرات الخبز عمدا أو رمي بقاياه في القمامة، من سلوكيات البطر المشينة التي سيحاسب عليها أصحابها في “الآخرة”، وتصنيفها من الكبائر.

لايختلف الأمر مع العائلات المتدينة في العديد من الدول الغربية، إذ فرضت التقاليد الدينية الاجتماعية المتوارثة منذ مئات السنين وإلى اليوم، سلوكيات وقواعد اجتماعية صارمة تتعلق بالغذاء وتقدير نعمة العطاء، وما زالت العديد من هذه العائلات المحافظة في المجتمعات الأوربية والأميركية تبارك خبزها، وتلتزم حتى اليوم بطقس صلاة الشكر الخاصة قبل جلوس أفرادها إلى المائدة وتناول الطعام.

هذه “الِنعَم” التي كانت منذ بدء اكتشاف البشرية لها موضع تقدير وشكر واحترام، والتي يفترض الواجب الأخلاقي أنها “نِعمٌ” محمية بقواعد لا يُعبَث بها، فلا تقربها السياسة، أو تخضع لمزاجيات، أو يلوثها تغول الحروب وجشع المحتكرين، أو أن تكون موضوعاً لمساومة ومقايضة وابتزاز، بوصف الغذاء خطاً أحمر وهبة فوق-تفاوضية.

لكنها للأسف، تبدو بمجموعها مجرد محظورات تستغل كشعارات واهية للمتاجرة بها، حيث أثبتت المئة عام الأخيرة من تاريخ الحروب، أن الغالبية من صناع الحروب وتجارها، يضربون بالأخلاقيات عرض الحائط، ويستغلون قوت الشعوب للمقايضات السياسية، وأن هذا الخط الأحمر قد اخُترق-ولا يزال- عشرات المرات في معظم الصراعات السياسية أو المسلحة الداخلية أو الدولية حول العالم، وآخرها الغزو الروسي لأوكرانيا.

المراقبون والمحللون السياسيون والمنظمات الدولية التي تعنى بالأمن الغذائي، سبق لهم أن توقعوا ونبهوا قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا إلى احتمالية تسييس الغذاء، وتحويله إلى “سلاح” ضمن سياق أسلحة هذه الحرب، بل أسهبوا واستفاضوا في شرح المخاطر الكارثية والمجاعات المحتملة في العديد من دول العالم، وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية على الدول الفقيرة والأفريقية بشكل خاص.

ورغم كل التحذيرات، حلّ بالعالم ما كان يُخشى من وقوعه، وبدأت نُذُر المجاعات تلوح كشؤم سيقرر أقدار 275 مليون شخص معرضون لانعدام الأمن الغذائي حول العالم هذا العام فقط، بحسب تقديرات رئيسة المفوضية الأوربية قبل أيام، وأيضا توقعات منظمة الفاو وبرنامج الغذاء العالمي. في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير الاخبارية عن مئات الأطنان من القمح الأوكراني المكدس في الموانىء بسبب الحرب والسياسة، والذي يمكن أن يكون إسعافياً لهذه الشعوب المنكوبة قبل أن تفسده حرارة الصيف أو يتحول إلى طعام للقوارض داخل سفن الشحن.

وهو ما دفع الأسبوع الفائت المجتمع الدولي إلى تصعيد حراكه السياسي والدبلوماسي المكثف في السياق، والذي يشي بنفاذ الصبر وتفاقم الغضب الدولي، حتى ولو أتى مغلفاً بالعبارات الدبلوماسية، إزاء هذه الحرب التي كان يمكن تفادي حدوثها وتسببت بسلسلة لامتناهية ومترابطة من الخراب العالمي.

الملفت ضمن هذا الحراك الدولي، كانت الزيارة التي قام بها الرئيس السنغالي، ماكي سال، الذي يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي للقاء الرئيس الروسي قبل توجهه إلى أوكرانيا. وهي زيارة وصفها الرئيس سال “بالودية”، وسعى خلالها إلى إبلاغ نظيره الروسي أن الدول الأفريقية “على الرغم من بعدها عن مسرح الحرب هي ضحايا لهذه الأزمة على المستوى الاقتصادي”.

لعل من تابع هذه الزيارة الأسبوع الفائت بالنقل المباشر، قد لاحظ البرود الروسي مقابل الجهد المستفيض الذي بذله رئيس الاتحاد الأفريقي لشرح معاناة بلاده. وهي معاناة يفترض أنها معروفة في الأساس لدى الجانب الروسي ولاتحتاج إلى الكثير من الشرح، وهو انطباع تركته هذه الزيارة لمتابعها، والذي يصل إلى حدود الشعور بـ “الأسى”على الأفارقة الذين عليهم في كل حين إلى ما يشبه”استجداء العالم” للأسف الشديد.

في الوقت الذي كان يمكن تجنيبهم المرور بمثل هذه التجربة القاسية والمضافة إلى كل مشاكلهم المتعلقة بتحديات التغير المناخي والفقر والأمراض المستوطنة وانعدام التنمية وغيرها. وهو ماتنبهت إليه بشكل ملفت رئيسة الاتحاد الأوربي بقولها، ما مفاده، إن ما تحتاجه الدول الأفريقية حقيقة هو مساعدتها في إيصال التكنولوجيا لها، بمعنى الدفع نحو النهوض بمواردها الذاتية لتطوير محاصيل زراعاتها التي تحفظ أمنها الغذائي وتحفظ أيضا، كرامتها.

حتى اللحظة، يتبادل الجانبان الروسي والأوكراني الاتهامات حول مخزون القمح المعطل في الموانىء الأوكرانية المحاصرة، فيما العالم ينتظر طاقة فرج، إن اتسعت في الغد نسبياً بعد نجاح الوساطات الدولية بينهما، قد تعود وتغلق بعد غد، مع ما تؤكده مؤشرات هذه الحرب والتوقعات حول طول أمدها.

واحدة من أصعب الصور التي تبادلتها وسائل الإعلام العالمية، كانت تلك الصور الملتقطة لطوابير الأوكرانيين الذين ينتظرون حصصهم التي لا تتجاوز رغيف خبز واحدا لكل شخص، فيما بلادهم وإلى ما قبل أربعة أشهر تقريباً، كانت سلة غذاء العالم. فأي قهر أكبر من أن يصير قوت الشعوب رهيناً للسياسة، يخضع لشروطها وصفقاتها وعار مقايضاتها “القذرة”

اترك رد