محمد حامد جمعة نوار يكتب.. أخر_الليل
أمس وبين أخر الليل وبدايات الفجر . تلاشت الكهرباء . هبطت رحمة المطر فرفع مهندس بالكهرباء (سويتش) العذاب بالظلام ربما تحسبا لتفلت سلك عار او وميض (شورت) ! أظلم الحي . فخرجت الى الشارع علي أجد في بعض ثرثرات الطريق هدى ؛ فلم أجد سوى باعة الخراف .
تكوموا تحت برندة لمتجر طار صاحبه الى تمبول . قلت وأنا أقترب منهم سلام سلاما . ردوا بحماسة . خبروا دون شرح مني اني ضال وربما غريب يريد أن (يتمطر) فتجاذبوا اطرافهم مفسحين . مدوا الي بكوب شاي . دستته في شفتي قبل ان يهبط جسدي على الفرش . بعضهم شجعني بإبتسامة وصغير منهم التف مثل مضمد من جراح يراقبني بدهشة . لاحظت انهم يثرثرون بنم وغناء . يرمي أحدهم البيت فيلتقط الاخر قافيته ! راقني الامر كنت اهز راسي مستحسنا . جميل الوصف في غزل او كبير الطود في مدح وفخر . سألتهم حتى اني قطعت المجادعة ! انتو من وين ! تطايرت أسماء المناطق والقرى. وجدتهم كبابيش وحسانية ورفاعة وجموعية حتى اني جزعت ان ان يطل من بينهم صلاح احمد ابراهيم ليضيف تفاصيل أهل عنبر جودة . ليس بالحبس لكن بالسمات والجهات . كانوا من كل القرى والحلال والهويات . فطاب مجلسي على بساطته وفوقي يجول قول العباسي :
فلقيتُ من أهلي جحاجحَ أكرموا
نُزُلي وأولوني الجميلَ مُكرَّرا
وصحابةً بَكَروا إليَّ وكلُّهم
خَطَب العُلا بالمكرمات مُبَكِّرا
2
بعضهم في غنية كان يستدعي خلفية ببيان عن الناظم . تقع أحيانا مجادلات بشأن حقوق القول وتفاصيل سوابق الإجادة . أحدهم برع في ذاك التنغيم الذي يضع الجاري فيه بالصوت المنموم يده على صدغه . كأنما يريح مواجده على كف القدر . تفحصت الرجل الستيني . شارب مثل بقايا عظم جاف . وتقاطيع كأنما جرت اشواك على وجهه من سنوات مرهقة . يغمض عينيه في لحظة ويفتحها في اخرى . فإن راق المقطع للحضور صاحوا منتشين فيعيد الكرة .اشاركهم الصياح مستدعيا شراكة النشوة اقول الله . الله .
تحول المكان لمسرح جميل يشد الانتباه . لدرجة ان الخراف في الفضاء المقابل لهم كانت وقوفا . ربما بفعل المطر وتأرجح الريح وربما لانها أستهواها ما تسمع . إذ إصطفت وكأنها حشد خريجين ينتظر تلاوات الخطباء للتهاني . واما انا فقد فتحت نوتة التسجيل الكتابي كلما طارت مربعة لاحقت قيود التسجيل للحفظ . إضطررت لاحقا للتسجيل فهذه كنوز من اشعار تستحق الصون . وربما يحتاجها المرء
3
سمعت كلامات عن الهضليم . قلت هذا ود شوراني . واستدعوا سير رجال غيره ونماذج . لاحظت ان ذاك الفضاء الليلي احتشد بمجلوب المشافهات . والنقل راو عن راو . فما اظن ان فيض الثقافة الشعبية المتدفق هذا مكتسب كتابات وتوثيق أفندية ! وبالتالي فهو نوع قابل للعيش وطول العمر لانه من الصدور للالسن . دون مشقة في تجديد الطبعات او تنقيحها . واما الاجمل الذي راقني فقد كان شمول معاني تلك الاشعار لجوانب قيمية اظنها مرعية في عالم تلك القرى وحواضنها الاجتماعية عكس الخرطوم ! وبمناسبة الخرطوم فقد عادت الكهرباء . فعلتني إنتهازية المدينة فقلت (هوي انا ماشي اقعدو عافية) نهضت انفض نفسي من مدينة التراب واصحابي يتفرقون فكأنما أضواء النيون عدو شتت شملهم !
…