طوال مسيرتي الصحفية لم أعان تعباً يضاهي تعبي الأمني سوى تعبي معهم..
فقد عجزت عن محاورتهم إلا بعد تعب..
والغريب أن من كنت أظن محاروته صعبة – لدواعٍ أمنية – تمت بيسر مذهل..
وهو مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين..
وكان الحوار الوحيد الذي أجراه معه صحفي سوداني حتى لحظة استشهاده..
ولا أنسى حديثه عن علاقة الدين بالحريات..
ومن هؤلاء فاروق زكريا ؛ القيادي الشيوعي العنيد…والمحاذر…و المتوجس..
فقد كان يرفض – بحزم – التعاطي مع الإعلام..
إعلام الإنقاذ كما كان يسميه ؛ وأيما صحيفة – وإن كانت مستقلة – فهي إنقاذية..
ومن ثم فإن أي صحفي في ذلكم العهد هو إنقاذي..
وحاولته مرة…وأخرى…وثالثة ؛ وفي كل مرة يرد علي هاتفياً : عذراً لن أتكلم..
ولكنه تكلم في النهاية ؛ تكلم بعد أن كاد تعبي يبلغ حد يأسه..
تكلم بعد أن أجرى – من وراء ظهري – تحقيقاً أمنياً عن شخصي…وعن صحيفتي..
وكان كلاماً مشروطاً : ألا أحذف منه حرفاً واحداً..
فإما أن يُنشر كله…أو يُترك كله ؛ ونُشر كله تحت رقابة مباشرة من الرقيب..
وكان الرقيب هو إدريس حسن…رئيس التحرير ؛ لا الأمن..
وأشد منه حذراً…وتمنعاً…ورفضاً للكلام ؛ كان القيادي الاتحادي سيد أحمد الحسين..
ووزير داخلية فترة الحزبية الثالثة..
وذات صباح ذهبت إليه وأنا أتمثل مقولة أهله الشايقية (يا غِرِق يا جيت حازما)..
وكان الرفض كالعادة…وجيء بطعام الإفطار..
وكان بقدر عناده إزاء إعلام ذلكم العهد كريماً جداً مع ضيوفه…وما أكثرهم..
فرأيت أن أستغل كرمه هذا بميكافيلية حميدة..
فما أن دعاني لمشاطرته مائدته الخاصة حتى تمنعت كتمنعه تجاه أجهزة الإعلام..
وحار ؛ وحار معه ضيوفه كافة..
وبعد طول حيرة – ورجاء – لم يجد بداً من إعطائي وعداً بالتحدث إلي عقب الفطور..
ووفى بوعده ؛ ونُشر الحوار – كما هو – بالزميلة (أخبار اليوم)..
وما زلت أذكر حيرةً أشد من حيرة سيد أحمد الحسين تلك من تلقاء رئيس التحرير..
من تلقاء أحمد البلال ؛ وفحواها (كيف فعلت ذلك؟)..
وبمناسبة (أخبار اليوم) هذه أقول إن غالب حواراتي المتعبة تلك نُشرت بها..
ومنها حواراتي مع ياسر عرمان…وهو بالخارج..
وكذلك مع قائد قوات التجمع المعارض – بالخارج – الفريق عبد الرحمن سعيد..
وأيضاً مع المعارض الشرس – بالخارج – فاروق أبو عيسى..
وهذه شهادة بحق (أخبار اليوم) بأنها لم تحجر لي – ولا لهم – رأياً..
أما الحوار المتعب – مع أكثر شخصية متعبة إعلامياً – فقد كان مع جون قرنق..
وتم عبر وسيط تعب هو نفسه ؛ هو أبيل ألير..
وطرتُ به فرحاً إلى الجريدة…وطارت الجريدة فرحاً به…ولكنه طار منا الاثنين..
فقد انتزعته من صفحات الجريدة أيدي الأمن..
أما الذي انتزعناه نحن في مجال الحريات الصحفية – والسياسية – فكثيرٌ جداً..
وكل نقطة نبلغها – في سكة الحريات هذه – يصعب الرجوع عنها..
ولهذا قال نقد أن المعارضة الحقيقية هي الصحافة..
بل حتى صحافة النظام حين بلغت نقطة الانحياز إما لشعبها وإما لنظامها لم تتردد..
باستثناء – طبعاً – (القطيع) من صحافييها..
والدليل ما قاله رئيس النظام في أواخر عهده (حتى الصحفيين بتاعننا بقوا ضدنا)..
أما الآن فإنني ضد الذين (سطوا) على الثورة..
ثم سطوا على السلطة قبل أن تُنزع منهم ؛ ويسعون الآن للسطو عليها مرةً أخرى..
ولست ضد ثورة (هرمنا من أجل لحظتها التاريخية)..
ضد الذين حين تمكنوا لسنواتٍ ثلاث فقط أتعبونا كتعبنا ثلاثين عاماً مع أهل التمكين..
أتعبونا معنوياً…وفكرياً…ونفسياً…ومعيشياً…وخدمياً..
وأتعبوني !.