وجه الحقيقة |
يشكل الحزام الأخضر في ولاية الخرطوم أحد المشروعات البيئية الاستراتيجية التي أُنشئت خلال العقود الماضية لمواجهة تحديات التصحر والتوسع العمراني غير المنظم.
يعود تأسيس هذه المبادرة إلى أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، في سياق البرامج الوطني الذي يستهدف استعادة الغطاء النباتي والحفاظ على التنوع البيئي في السودان، بدعم من منظمات الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO ). وقد كان الحزام الأخضر حول الخرطوم حلقة أساسية في منظومة استدامة البيئة الحضرية وتأمين الموارد الطبيعية ، إلا أن الأوضاع الراهنة التي خلّفتها الحرب دمرت هذه المكتسبات .
الحرب التي اشتعلت في بلادنا و في الخرطوم وما حولها لم تقتصر آثارها على الخسائر البشرية والمادية، بل طالت النسيج البيئي الذي يُعد ركيزة أساسية لاستقرار الحياة الحضرية والتنمية المستدامة.
شهد الحزام الأخضر قطعًا كاملًا لأشجاره، نتيجة الحاجة الملحة للوقود في ظل انقطاع مصادر الطاقة التقليدية، لا سيما الغاز. هذا الواقع يعكس تداخل الأزمات الأمنية والاقتصادية والبيئية في المشهد السوداني، حيث يصبح تآكل البيئة نتيجة حتمية لتفكك الدولة وغياب سيطرتها على الموارد الأساسية.
المجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية بولاية الخرطوم كان من أوائل المؤسسات التي وثقت حجم الدمار، معلنًا عن خطة عاجلة لإعادة التأهيل تتضمن حماية الأراضي من التعديات وتشغيل منظومات الري وتوفير شتول عالية الجودة لإعادة التشجير.
هذه المبادرات، رغم أهميتها، تقع في إطار محاولات إنقاذ في لحظة استثنائية، تعكس هشاشة الأطر الإدارية والمؤسساتية التي لم تستطع الاستجابة بشكل استباقي لأزمة بيئية مقيمة.
فالبيئة في السودان عموماً، والخرطوم خصوصًا، لم تكن أولوية مطلقة في السياسات التنموية في فترة ما قبل الحرب، وهو ما يكشف عن فجوة بين التوجهات الرسمية وإدراك الواقع المعقد الذي يعاني من تداخلات متعددة بين عدم الاستقرار السياسي، الضغوط الاقتصادية، والتغير المناخي.
في هذا الإطار، تكتسب تصريحات رئيس مجلس السيادة ، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أهمية بالغة، حيث جاء في كلمته خلال مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (COP29) في نوفمبر 2024 بمدينة باكو، أن السودان ملتزم بتنفيذ اتفاقية باريس ويضع قضية التكيف المناخي في صلب برامجه التنموية.
هذه المواقف تعكس إدراكًا متزايدًا للحاجة إلى معالجة بيئية شاملة تتوازى مع جهود إعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي. لكنها في الوقت ذاته تطرح تحديات التنفيذ في ظل واقع داخلي معقد يتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة وتعزيز قدرتها على إدارة الموارد البيئية بشكل فعّال ومستدام.
من هذا المنطلق، يصبح من الضروري أن تعكس المرحلة القادمة من الحكم في السودان، التي تقودها حكومة الأمل، رؤية استراتيجية شاملة تراعي البيئة بوصفها جزءًا لا يتجزأ من بناء الدولة الجديدة.
إعادة التشجير وحماية الموارد الطبيعية تتطلب التزامًا سياسيًا واضحًا يعكس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع والبيئة، وينسجم مع الالتزامات الدولية التي أعلنها السودان. فلا يمكن لأي مشروع تنموي أو سياسي أن ينجح دون أن يستند إلى بيئة متوازنة وصحية توفر الأمن الغذائي والمائي وتعزز جودة الحياة.
يبقى التعافي البيئي، في ظل الظروف الراهنة، أحد المحركات الأساسية للاستقرار والاستدامة، ليس فقط لأنه يعالج تدهور الموارد الطبيعية، بل لأنه يقلل من المخاطر الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالتدهور البيئي والصراع على الموارد. فكلما كانت الدولة قادرة على توفير إطار بيئي مستدام، زادت قدرتها على بناء ثقة المجتمعات ودعم مسارات السلام والتنمية.
رغم ما طال البيئة السودانية من دمار وإهمال، فإنها تظل فرصة استراتيجية للتعافي وبناء مستقبل مستدام. يتطلب هذا التغيير تضافر جهود الحكومة والمواطنين والشركاء الإقليميين والدوليين، من خلال دعم الانتقال إلى اقتصاد أخضر، وتفعيل القوانين والسياسات، وتوفير الطاقة البديلة في المناطق الطرفية والريفية، وتكثيف التعاون. فالوقت لا يسمح بالمزيد من التأجيل، والمسؤولية تاريخية و مشتركة وعلى الجميع الاضطلاع بأدوارهم.
في ضوء هذه المعطيات، بحسب ما نراه من#وجه_الحقيقة فإن تحديات تجريف الغابات وتدهور الحزام الأخضر حول الخرطوم تُعد مرآة حقيقية للحالة الوطنية التي يتعين على كل من الحكومة والمجتمع المدني والشركاء الدوليين قراءتها بعمق، والعمل معًا على صياغة حلول تتجاوز المعالجات العاجلة، إلى بناء منظومة بيئية متكاملة، تدعم التنمية المستدامة وتحمي مستقبل الأجيال القادمة تعزيزا للأمن والسلام .
دمتم بخير وعافية.
السبت 16 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com