صلاح الدين مركز يكتب: السودان والدوران في الحلقات المفرغة
منذ فجر الاستقلال في عام 1956، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة من الأزمات السياسية والاجتماعية، تتبدل فيها الوجوه والشعارات، لكن جوهر الأزمة يبقى كما هو: غياب المشروع الوطني والرؤية الجامعة لبناء دولة المواطنة الحديثة التي يرتضيها الجميع. فمنذ أن رفع السودانيون علم الاستقلال، لم تستطع القوى السياسية أن تتفق على صيغة تعايش وطني تضع مصلحة البلاد فوق الولاءات الضيقة، فكانت النتيجة دولة معلقة بين الماضي والمستقبل، لا هي استكملت بناء مؤسساتها الوطنية، ولا هي تجاوزت إرث الطائفية والقبلية الذي كبّل حركتها منذ البداية.
أزمة السودان ليست أزمة موارد أو كفاءات، بل أزمة فكرة الدولة نفسها. فالنخب التي تولت مقاليد الحكم منذ الاستقلال لم تنشغل ببناء دولة المؤسسات، بل انشغلت بصراعاتها حول من يحكم، لا كيف يُحكم السودان. هذا الانشغال المزمن بالسلطة لا بالمشروع، جعل السياسة السودانية تدور في دوائر مغلقة من الانقلابات والتحالفات الهشة، تنتهي جميعها عند النقطة ذاتها: الفراغ الوطني.
تعددت الأحزاب واختلفت شعاراتها، لكنها لم تتجاوز كونها كيانات اجتماعية طائفية أو أسرية، ترتكز على الولاء للزعيم لا على الفكرة أو البرنامج. هذه البُنى التقليدية أنتجت قيادات تكرر خطابًا متناقضًا؛ تطرح مشروعات سياسية قومية وترفع رايات الوحدة الوطنية في العلن، بينما تمارس الإقصاء والمحاصصة في السر. وهكذا ترسخت في وجدان الناس قناعة بأن السياسة في السودان ليست ساحة للتنافس الوطني، بل مضمار للامتيازات والتمكين.
ومن رحم هذا الواقع وُلد خطاب المركز والهامش الذي بدأ كمطالبة سياسية مشروعة بالمساواة والعدالة في توزيع السلطة والثروة. غير أن تجاهل المركز لتلك الأصوات وتحويله الدولة إلى أداة لخدمة فئة محددة، جعل الخطاب يتحول من فكرة فكرية إلى مظلومية سياسية واجتماعية. ومع مرور الوقت، تطور ذلك إلى كيانات مطلبية سرعان ما تحولت إلى حركات مسلحة رفعت السلاح باسم التحرير، لكنها في جوهرها كانت تعبيرًا عن الإحساس العميق بالتهميش، وغياب التمثيل السياسي، وانعدام التنمية المتوازنة.
ولم يكن خطر التقسيم الماثل الآن وليد اللحظة، بل هو نتيجة طبيعية لسلوك الدولة المركزية التي مارست التمكين الجهوي والمناطقي لعقود. فقد استغل بعض النافذين وجودهم في مراكز صناعة القرار، ومكّنوا لمكوناتهم الإثنية والمناطقية داخل مؤسسات الدولة، في تجاهل تام لمبدأ الكفاءة والمواطنة المتساوية. هذا النهج أنتج واقعًا مختلاً عمّق الصراع، وأرسى قواعد جديدة للولاء قائمة على الانتماء الجغرافي لا الانتماء الوطني، الأمر الذي ساعد على اندلاع الحروب في أجزاء متفرقة من الوطن.
وكانت حرب الخامس عشر من أبريل النتيجة الطبيعية لمسار طويل من الفشل البنيوي في إدارة التنوع وتوزيع السلطة والثروة. إنها لم تأتِ فجأة، بل كانت نتيجة تراكمات من التجاوزات السياسية، وغياب العدالة، وتفكيك مؤسسات الدولة لصالح الولاءات الضيقة. وقد كشفت الحرب هشاشة البنية الوطنية، وأظهرت بجلاء أن السودان كان يعيش فوق هشيم من الأزمات المؤجلة التي انفجرت دفعة واحدة.
هذه الحرب لم تدمر فقط ما تبقى من مؤسسات الدولة، بل ضربت في عمق الهوية الوطنية، إذ بات الولاء اليوم للمنطقة والقبيلة والسلاح، لا للوطن والدستور. ومع غياب المشروع الوطني الجامع، أصبح خطر تفكك السودان أكثر واقعية من أي وقت مضى، فالدولة التي لا تمتلك رؤية، يسهل اقتسامها على خريطة المصالح الدولية والإقليمية.
إن الخروج من هذه الدوامة لا يكون بإعادة إنتاج ذات النخب أو تكرار الخطاب القديم، بل بطرح مشروع وطني جديد يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة لا المحاصصة. مشروع يقوم على عقد اجتماعي يحدد بوضوح علاقة الدولة بمواطنيها، ويضمن العدالة في توزيع السلطة والثروة، ويعيد الثقة بين المركز والهامش عبر تنمية متوازنة وشاملة.
هذا المشروع يجب أن ينطلق من إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية ووطنية، بعيدًا عن المحاصصة والولاءات، وأن يُرسّخ ثقافة دولة القانون والمساءلة. فالوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالإرادة السياسية الصادقة والرؤية الواضحة.
اليوم يقف السودان على مفترق طرق حاسم: إما أن يختار طريق التأسيس لدولة جديدة تُبنى على فكرة المواطنة والعدالة، أو أن يستمر في الدوران داخل ذات الحلقة التي بدأت منذ الاستقلال، والتي كلما ظننا أننا خرجنا منها، وجدنا أنفسنا في بدايتها من جديد. فالتاريخ لا يرحم من يكرر الأخطاء، والشعب الذي لا يتعلم من أزماته، محكوم عليه بالتلاشي في دوامة الفشل.