(1)
في الأسبوع الأول لنجاح ثورة ديسمبر كتبتُ مقالاً حذرتُ فيه مما هو أخطر على الثورة من تآمر المؤتمر الوطني ومراكز القوة والنفوذ المالي والطفيليين الذين هدمت الثورة أمجادهم المزيفة وشكلت خطراً على أموال السحت التي جمعوها بالحرام…وأشرتُ إلى أن الأخطر من كل ذلك هو “سوسة” الخلافات والصراعات بين قوى الحراك الثوري، فمتى ما تغلغلت هذه “السوسة” في عود الثورة الغض أيبسته ونخرته وأذهبت نضارته وقوته ولن ينفع حينها الصراخ والتلاوم والبكاء على اللبن المسكوب ، وفي ذهني وقتها نبوءة مزعجة وخوف وإشفاق على ثورة الشعب السوداني الشعبية الشبابية التي مهرها بدماء عزيزة وغالية، ودفع ثمنها معاناةً وضنكاً وتنكيلاً وتعذيباً من أباطرة الإستبداد والقهر…كان خوفي من أمرين الأول : وقوع الخلاف بين مكونات الثورة ، والثاني تسلط خاملي الذكر من العاطلين والإنتهازيين و”تمكينهم” وتمكنهم من سرقة الثورة وخداع الشباب وتخديرهم، ولعل هذا كله حدث بالمسطرة…
(2)
أما الأمر الأول فقد وقع ماكنا نخشاه ونحذره …اشتعل الخلاف الذي كان بمثابة الخطوة الأولى لتعطيل بناء هياكل ومؤسسات الإنتقال من مجلس تشريعي ، ومحكمة دستورية ومجلس قضاء ونيابة ومفوضيات الإنتخابات ومكافحة الفساد، فقد كان الخلاف أيضاً المدخل الأول لذهاب المنعة والقوة وتسرب الوهن والإحباط والإختراق، وتعطيل عملية الإقتصاص للشهداء …كنا ولازلنا نقول أن الحل ليس في (بل) الكيزان فقط ، بل الحل في وحدة الحاضنة السياسية والإجتماعية وتحقيق العدالة والمساوة وصيانة الحقوق…لأن تماسك قوى الحراك الثوري ووحدة صف الحاضنة السياسية تعني استقرار سياسي وفترة إنتقالية هادئة بلا مشاكسات ومهاترات وانتقال سلس نحو التحول الديمقراطي والدولة المدنية واكتمال مهام الفترة الإنتقالية، وهذا مايُشكل حماية حقيقية للثورة من الإختراق والمؤامرات…لكن للأسف الشديد تصاعدت الخلافات والمناكفات والمماحكات وساد عدم الإحترام بين الشركاء ، وتطور الأمر إلى ماهو أخطر وأعظم وهو (الإقصاء)… وليته كان إقصاءاً للمشبوهين وراكبي موجة الثورة والنفعيين والانتهازيين والعطالى، للأسف الشديد فقد حدث العكس، تم إقصاء أهل الكسب النضالي وتسيَّد أصحاب الحناجر الغليظة ناس محمود الكذاب ، ناس هجم النمر هجم النمر.. هذا على مستوى الأشخاص … وأما على مستوى الأحزاب فقد وقع الأمر الثاني الذي حذرنا منه مبكراً…
(3)
على مستوى الأحزاب وقع الأمر الثاني الذي حذرنا منه مبكراً وهو إختطاف الثورة ، وليت المختطفين كانوا كباراً أقوياء وذوي خبرة فعلى الأقل كنا كسودانيين سنحتمي بحكمتهم كونهم كباراً… وكنا سنتخذ من قوتهم ملاذاً آمناً، ومن خبرتهم ملجأ ومغارات آمنة نتقي بها ويلات واقعنا المأزوم سياسياً واقتصادياً وأمنياً… ولكن للأسف كان المختطفون صغاراً أغرار ، ونشطاء منساقون وراء رغباتهم وطموحاتهم الشخصية لم تعركهم الأيام ولم تصقلهم التجارب، ولم يتعلموا سوى الكيد لبعضهم وأساليب (الحفر) وكأنهم في (هذا) تلاميذ في مدرسة المؤتمر الوطني…
(4)
الغريب في الأمر أن رئيس الوزراء يدرك أن المشكلة تكمن في أن أحزاباً صغيرة تتحكم الآن وتقصي من تقصي وتمكن لنفسها كما أخبر بذلك القيادي بالجبهة الثورية التوم هجو، عضو مفاضات جوبا، إذ قال لـ (الإنتباهة) أن رئيس الوزراء لا يختلف معهم في ان هناك مجموعة اقصائية مختطفة ومجموعة استعلائية، وأضاف : (هو يعرف ذلك وانا اتمنى ان يخرج الى الناس بذلك ويبرئ ذمته للشارع السوداني ، هو يعرف ويتفق معنا ولكنه غير راض ومتستر عليهم ومتفق معانا تماما ولكن الفرق بيننا وبينه انه لازال متستر على الحقيقة)…أ هـ..
ثم بقى أن نقول أن اختطاف قوى صغيرة للثورة لم يعد كلاماً يخرج في لحظة غضب من السيد البرهان، ولانائبه حميدتي، ولا التوم هجو كردة فعل للإقصاء والغبن ولا هو ما يعرفه رئيس الوزراء ويتستر عليه، ولاهو ما يخرج من اللجنة الفنية لإصلاح قوى الحرية بل هو حديث الشارع العريض والواقع الذي تثبته الوقائع ، وقد سبقنا الناس أجمعين بالإشارة إلى عُري هذا الفرعون لخطورة مايمكن أن يترتب عليه من زعزعة لأستقرار بلادنا، ولكن قومنا من بني أمية لم يكونوا أيقاظاً…..اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله ، وثق أنه يراك في كل حين.