حليم عباس يكتب.. الدماء لوحدها لا يمكنها إسقاط الأنظمة، كما لا يمكنها شراء الشرعية السياسية
صحيح أن القمع قد يفشل أحياناً و أن الأنظمة القمعية تسقط في النهاية، و لكنها تسقط بسبب عوامل مادية قوية، و ليس بسبب التأنيب الأخلاقي مثلاً. لو كانت الدماء التي يسفكها نظام ما كفيلة بإسقاطه لكان نظام الإنقاذ قد سقط بسبب جرائم دارفور لوحدها و منذ زمن بعيد. و لو كانت المجازر تسقط الأنظمة لسقط نظام بشار الأسد و أنظمة كثيرة في مصر و غيرها. الرهان على فكرة أن المزيد من الدم يعني بالضرورة إضعاف نظام ما ليس دائماً صحيحاً. هذه هي الحقيقة.
الأنظمة تسقط أخلاقياً هذا صحيح، و لكنها لكي تسقط ماديا فهي بحاجة إلى قوة مادية، إنقلاب عسكري، تمرد و اجتياح للعاصمة، أو حتى عصيان مدني شامل. في حالة السودان فالرهان على الإنهاك الأخلاقي و المعنوي للسلطة الحالية و تعريتها و عزلها هو رهان ساذج و خاطئ.
أما من الناحية السياسية فسقوط المزيد من الشهداء لا يعني بالضرورة الشرعية و الاستحقاق السياسي. و لو كان الاستحقاق السياسي يُنال بعدد الشهداء فالأولى بحكم السودان هم أسر الشهداء من دارفور، أكثر إقليم تعرض سكانه للموت، و ليس القوى التي تسمي نفسها قوى مدنية تريد استلام السلطة بدماء الشهداء. السلطة و الشرعية السياسية تُحصّل عبر الانتخابات و التفويض الشعبي.
مشكلة الحراك الحالي الأساسية هو أنه يراهن رهانين خاطئين، الرهان الأول هو امتلاك الشرعية الثورية عبر النضال و التضحية، و الرهان الثاني سذاجة أن الآلة العسكرية يمكن هزيمتها بواسطة الدماء و الموت.
لو كان الحراك يراهن على امور مثل الوحدة الوطنية، البرنامج السياسي الذي يوحد أكبر كتلة من الشعب ترى في ذلك خلاصها، لكان اتخذ وسائل مختلفة. و لكنه، كما أقول دائماً، حراك داخل أفق ديسمبر المنغلق، حيث لا وجود لآخر فالناس إما من “قوى الثورة” او خارجها و بالتالي لا وجود لهم اساساً.
هذه هي مشكلة ثورة ديسمبر كلها، اختزلت السودان كله في قوى معينة. و لكن السودان بتعقيده و تركيبه لا يمكن اختزاله بهذا الشكل، و ما حدث خلال فترة حكم شراكة كورثيا خير دليل. على أن الحراك الحالي أضيق حتى من إطار كورنثيا، فالحركات المسلحة التي كانت جزءاً من هذا الإطار كشركاء الكفاح المسلح انتقلت الآن إلى صف الخونة حسب التصنيف الديسمبري، دعك من الأحزاب و القوى الأخر كالقوى الإسلامية التي كانت جزءاً من ديسمبر او متعاطفة معها و ترى فيها خلاصاً من الاستبداد و أملاً في مستقبل أفضل كلها الآن بعيدة تتفرج، المؤسسة العسكرية، مؤسسة الجيش التي كان عليها الرك في ثورة ديسمبر، تحولت إلى عدو، و البعض أصبح يطلق عليها جيش الاحتلال، قوات الدعم السريع التي بوقوف قائدها على الحياد ثم انحيازه للثورة في النهاية أصبحت هي ذاتها هدفاً للثورة. حتى بعض أحزاب الحرية و التغيير هناك من يخونها و ليس ببعيد نسف الندوة السياسية التي أقامتها في شمبات. السؤال الذي يطرح نفسه الآن من يسقط من و يسلم السلطة لمن؟ و لماذا؟ و كيف؟