شمائل النور تكتب السودان: قصص مشروعات نسوية تحاصر الخنوع والاستسلام 1 ــ 3
النص الأول من “دفتر” مخصص لمبادرات النساء الذاتية وقدرتهن على تدبر الضرورات في ظروف بالغة السوء: خيال وإبداع وإصرار وتحمّل. فتحيَّة لهن، أينما كنّ، سواء نجحن أو تعثرت خطاهنَّ! سينهضْنَ من جديد!!
هنا من السودان:
يدرن جماعياً تعاونية زراعية في أقاصي السودان، أنتجت بعد سنوات فائضاً فاشترين أراضٍ وضممن مزارِعات جدد. يجلبن الكهرباء إلى قراهن في أقاصي أخرى من البلاد، فيخرِّب نزاع مسلح المنجز، ولكنه لا يهدم نيتهن باستعادته وتوسيعه. ينتظمن في جمعية لبائعات الشاي تضم الآلاف، ويناضلن لتطويرها… ثم جامعيات في العاصمة ينشئن نادياً للتدريب على الدفاع عن النفس ضد التحرش. وهذا غيض من فيض!
تتفاوت مبادرات النساء وأنشطتهنَّ في السودان بحسب تفاوت احتياجات واقعهنَّ وأولوياته التي تنطلق عادةً من المستويات الاجتماعية، السياسية والتعليمية، وربما الطبقية. وهي مبادرات قديمة جداً ومتجددة ولا حصر لها. تنشط في السودان مجموعةٌ من منظمات المجتمع المدني التي أغلبها – أو فلنقل إن صاحبات الصوت العالي منها – مهتمةٌ بقضايا الوعي وحقوق المرأة. ومعارك الإصلاح القانوني لوضعية النساء تأخذ حيزاً واسعاً من الاهتمام، لكن الحقوق الاقتصادية غائبةٌ على الدوام عن مسرح صراع التغيير المستمر، وكثيراً ما تُلام المنظمات النسوية على اختلال أولوياتها في قضايا النساء. لكن المرأة في الأرياف السودانية البعيدة، خاصةً تلك التي أهلكتها الحروب مثل جنوب كردفان ودارفور، قاومت واقعها بما جعلها تتجاوز حدود طاقتها. وقد عكست تلك المبادرات حجم المسؤولية التي تتصدى لها النساء، وهي وضعية مغايرة لما هو قائم في أذهان المجتمع. اختلفت المبادرات نسبةً لاختلاف الأولويات، لكن جميعها نبت من حاجة واقعية للفتيات أو النساء. حاولنا هنا استعراض قدر بسيط من المبادرات مع مراعاة التفاوت بين الأولويات بحسب أوضاع هؤلاء النساء.
تدبر الكهرباء عبر الطاقة الشمسية – جنوب كردفان
في جنوب كردفان وهي منطقة حروب مستمرة، طفرت النساء إلى أبعد مما يُتَصوَّر، حيث استطاعت مجموعة محدودة التعليم أن توفر خدمات كهرباء لعدد من القرى. لم تتوقع “منى مرسال” أن يأتي عليها يومٌ وتصبح ماهرةً في توصيلات الكهرباء وصيانة معداتها الأولية، وهي التي توقف تعليمها عند الابتدائي الذي بالكاد منحها معرفةً أولية بالقراءة والكتابة. لكن يبدو أن المشروعات الصغيرة قد تصبح مشروعات كبيرة بكثير من العزيمة والإرادة وقليل من الدعم، متجاوزةً المستوى التعليمي.
منى التي تقطن بمنطقة “ميري” بجنوب كردفان، والتي تبعد عن عاصمة الولاية، “كادوقلي” نحو 7 كيلومترات، بدأت مع أخريات مشروع جمعية محدودة داخل القرية. والفكرة ببساطة أن يتم تجميع بعض السلع الاستهلاكية اليومية مثل الشاي، القهوة، السكر، والصابون، مع مبلغ مالي محدود يُمنح كل مرة لواحدة من ربات البيوت المشاركات في الجمعية، أو ما يعرف عند السودانيين بـ”الصندوق”، وهنَّ 30 امرأةً تتراوح أعمارهنَّ بين الـ25 والـ60عاماً، جميعهنَّ ربات بيوت ويعملن في الزراعة، حيث إن الزراعة هي النشاط الرئيسي لسكان المنطقة، وجميعهنَّ إما تلقين تعليماً ابتدائياً أو هنَّ أميّات.
فكرة الصندوق الدوري التي بدأتها منى مع جاراتها، على بساطتها، ساهمت بشكل فعال في توفير الاحتياجات اليومية للأسر، ولفترة زمنية معقولة. ووفقاً لمنى التي تحدثت إلينا عبر الهاتف من قريتها، كان نشاط المجموعة في أوجه بين عامي 2004 و2005. وحلول عام 2008، بدأت نافذة الأمل تتسع أمام منى مرسال ورفيقاتها، حيث “وقع عليهنَّ الاختيار” ليتم تدريبهن في مجال الطاقة الشمسية! وكم كانت تحتاج تلك القرى لمثل هذه المشروعات، بحكم الصراعات المستمرة هناك، والتي عرقلت عمليات التنمية حتى في أدنى مستوياتها الأساسية. إذاً ما قصة التدريب التي أصبحت نقطة تحوّل بالنسبة لمنى ورفيقاتها، بل وبالنسبة لمواطني تلك القرى البعيدة؟
تقول منى إن رجلاً هندياً وصل إلى مناطقهنَّ، وكان يبحث عن مجموعة نشطة تستفيد من الفرصة ومن ثم تنقل تجربتها لمنطقتها. وكان هذا من أبرز الشروط: أن تنتقل الفائدة لسكان المنطقة، علاوةً على شروط الحاجة للطاقة باعتبار الموقع الجغرافي، أي أن تكون القرى المستهدفة بعيدةً جغرافياً عن أي منطقة قد تمكّنها من وصول الكهرباء إليها في مدًى قريب. فمن هو الرجل الهندي؟ “بنكر روي”، مؤسس “جامعة الحفاة” (Barefoot)، المهتمة بتوفير فرص مهنية وتدريبية للنساء في المجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم. وقد أكملت الأكاديمية 50 عاماً منذ تأسيسها، واستطاعت عبر شراكة مع واحدة من المنظمات المحلية في منطقة كردفان من الوصول إلى هناك، ودراسة الحالة التي انتهت بمشروع طاقة شمسية.
تقول المهندسة “غادة كدودة” المهتمة بقضايا العدالة الاجتماعية، إنها ومن خلال نشاطها، قابلت بنكر في أحد المؤتمرات ودعته بشكل شخصي لزيارة السودان وتقديم خدمات كليته لنسائها. وافق بنكر على الفور، ووقع الاختيار على مناطق جنوب كردفان، بعد اتفاقية السلام الموقعة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005. وتشرح غادة أن اختيار المنطقة جاء باعتبار أن اتفاقية السلام وفرت مناخاً آمناً للعمل، لأن الحرب كانت قد انفجرت في ذلك الوقت في دارفور، وبلغت ذروتها في عامي 2004 و2005. وكانت “غادة كدودة” هي حلقة الوصل بين بنكر ونساء جنوب كردفان، وأصبحت ممثلةً للأكاديمية في هذا المشروع بشكل فردي وتطوعي.
تشدد غادة على مسألة الجهد الشعبي في هذا المشروع، وكيف أن العمليات التطوعية فيه استمرت حتى خرج إلى النور، مثل تحمل نفقات المسح والتصوير، ونفقات احتياجات النساء للسفر. وتعتقد غادة أنه لولا هذا الجهد الشعبي ما كان للمشروع أن يكون.
تقول منى مرسال إن الاختيار وقع على 18 سيدةً، أعمارهنَّ تتراوح بين الـ35 و40 عاماً، وأن ذلك نال موافقة أهالي المنطقة، فعملية الاختيار كانت ديمقراطيةً، ثم وصلت التصفيات النهائية إلى 4 سيدات بعد معاينات عديدة أجرتها الأكاديمية في عاصمة الولاية، كادوقلي. تواصل منى حديثها: وقع علينا الاختيار لنسافر للهند لتلقي الدورة التدريبية التي استمرت 6 أشهر هناك على نفقة الكلية. بعدها عادت منى ورفيقاتها إلى السودان حيث قُراهنَّ التي تنتظر المشروع – الأمل.
كانت منى ورفيقاتها محمّلات بخبرة تدريبية كافية وبدعم من الأكاديمية، واستطعن إنارة ثلاث قرىً، هي “ميري”، “فقوسة”، و”الحميض”.
أحدث مشروع الكهرباء بالطاقة الشمسية، تغييراً اجتماعياً كبيراً في القرى الثلاث. فالإنارة كما تقول منى، جعلت حياة النساء آمنة في الأعمال المنزلية الليلية، حيث يقضين نهارهنَّ في الزراعة، ويعدن إلى منازلهنَّ مع مغيب الشمس ليباشرن الأعمال المنزلية التي كانت قبل وصول الكهرباء محفوفةً بالصعاب، حيث تنشط في الليل الحشرات والثعابين التي تمثل مخاطرَ لهنَّ ولصغارهنّ. فضلاً عن هذا، استطاع الناس هناك مشاهدة التلفاز ومتابعة الأخبار والمباريات. وهي تحولات كبيرة، تلك التي حدثت في القرى الثلاث على المستويين الاجتماعي والثقافي.
تقول غادة كدودة إن أبناء هؤلاء النسوة كانوا يسخرون حينما يباشرن أعمالهنَّ الهندسية بمهارة عالية في التوصيل والصيانة، فكان الواحد فيهم يقول “أمي لا تعرف تقرأ فكيف تصبح مهندسة”؟
استمر المشروع المحاط بالآمال الكبيرة لمدة ستة أشهر، تغيرت فيها حياة الناس تغبيراً محسوساً. وتقدر كدودة عدد المنازل التي استفادت من المشروع في القرى الثلاث نحو 300 منزلٍ أو ما يقارب 1500 فردٍ بحساب متوسط الأسرة في تلك المناطق (نحو 5 أفراد).
ثم توسع المشروع ليشمل قرى جديدة. لكن الحرب التي انفجرت مجدداً عام 2011 بين الحكومة و”الحركة الشعبية” مع انفصال جنوب السودان قطعت الطريق عليه. تعطل العمل تماماً، ونزح الأهالي من القرى ونُهبت المعدات جميعها. تقول منى بحسرة “بدلاً من أن نواصل إضاءة بقية القرى، أظلمت القرى المضيئة”.
لكن غادة كدودة التي بدت مبهورةً جداً بهذه التجربة، تسعى حثيثاً لجذب تمويل جديد لمواصلته، مع استهداف 24 قريةً جديدة على مدى 4 سنوات.